شبكة بيئة ابوظبي، بقلم د. هادي عيسى، باحث في مجال علوم الأرض في جامعة الإمارات العربية المتحدة، 04 يونيو 2024
إذا عدنا بالزمن إلى منتصف القرن العشرين (حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات)، فسنجد تعددًا في المصادر التي تقوم بإطلاق المواد الدخيلة عبر مسارات التجويف في باطن الأرض، كالمذيبات المكلورة المستهلكة (chlorinated solvents) والمنتجات النفطية (hydrocarbons). وفي مواجهة هذه الأزمة الصامتة، لجأ معالجو البيئة خلال تلك الحقبة إلى الحلول التي كانت مألوفة في حينها، ومن أكثرها انتشارًا في ذلك الوقت هي نظم الضخ والمعالجة (Pump-and-Treat systems)، وهي تنطوي على حقن كميات من الماء في النطاق المُلوَّث (contaminant plume) للتعزيز من عمليات التدفق والشطف، كما يساعد هذا الاحتواء لمجال انتشار التَلوُّث على منع المُلوِّثات من الوصول إلى الجداول وآبار الشرب والأراضي الرطبة وغيرها من الموارد الطبيعية، ويتم حفر آبار خاصة تتغوّل في باطن الأرض، حيث تغرس المضخات داخلها وتقوم بشفط المياه المُلوَّثة لتتم معالجتها فوق سطح الأرض. وكان الاعتقاد السائد أنّ كمية من مياه الشطف تعادل اثنين أو ثلاثة من متوسط حجم المسامية الصخرية ستكون كافية لاستعادة الطبقة الجوفية إلى حالتها البكر، حيث شكّل هذا النموذج المفاهيمي ما يشبه منارة أمل في مواجهة الأزمة المتصاعدة. ولكن هل هذا المنظور مازال مرضيًا على ضوء ما نعرفه اليوم؟
نموذج لنطاق التَلوُّث في باطن الأرض. المصدر: Mundell Consulting Professionals
لقد بات واضحًا في وقتنا الحاضر أنّ الواقع هو أكثر عنادًا وتعقيدًا ممّا افترضه روّاد تقنيات القرن العشرين. كانت بداية هذا التحوُّل النموذجي مع دراسة أجرتها وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) في عام 1989، حيث شمل البحث 24 موقعًا مختلفًا للضخ والمعالجة، وتبيّن أن التقنيّة لم تنجح في إيقاف عملية انتشار نطاق التلوُّث بشكل نهائي حتى بعد عقد من التطبيق؛ ورغم أنّ تركيز المُلوِّثات كان قد انخفض، إلا أنّ شبح التَلوُّث كان لم يزل قائمًا، حيث أظهرت النتائج أنّ التقنيّة، رغم كونها مجدية من حيث الإزالة والتحكُّم في مسار الانتشار، إلا أنها عاجزة عن إيصال طبقة المياه الجوفية إلى جودة تجعلها صالحة للاستهلاك البشري، علاوة على أنها تطلب الاستمرار في عملية الضخ لفترات طويلة جدًا.
نطاق التَلوُّث قبل وبعد عشر سنوات من تطبيق تقنيّة الضخ والمعالجة. المصدر: NSCEP
فرض هذا الواقع إعادة تقييم للفهم الأولي، وتبيَّن أنّ هناك شيئًا ما يختبئ في ظلمات القشرة الأرضية في خلفية المُلوِّثات الواضحة. وفي وقت لاحق من العام نفسه، قامت الـ EPA بإصدار ورقة بحثية أخرى في محاولة للوصول إلى الدافع وراء استمرار المجال المُلوَّث بالانتشار بعد تطبيق تقنية الضخ والمعالجة، حيث توصَّل الفريق الذي تصدى للبحث إلى أنّ العائق يكمن في اتخاذ بعض أنواع الملوثات، كالمذيبات المكلورة والمنتجات النفطية، طورًا من أطوار المادة، يُعرَف بطور السوائل الكثيفة غير المائيّة (DNAPL: dense non-aqueous phase liquids)، وهي سوائل تفوق بكثافتها المدى المتعارف عليه للمحاليل المائية. يقف هذا السائل الكثيف متربصًا كمخزون خفي للتَلوُّث، حيث يتدفق ببطء شديد، ويتفاعل كيميائيًا مع الصخور والتربة ممّا يعمل على تثبيته في موقعه، ويجعل استخراجه أمرًا صعبًا وأكثر تعقيدًا من المُلوِّثات ذات الأطوار المختلفة، وحتى عندما تنجح عمليات الاستخراج فهي لا تتم في الغالب بشكل تام وتترك خلفها آثارًا قابلة للانتشار.
غالبًا ما تتكوّن الDNAPLs من مواد تُشكِّل خطرًا على البيئة والصحة، ومنها ثلاثي كلورو الإيثيلين (trichloroethylene) الذي يدخل في صناعة مزيلات شحوم المعادن والدهانات ومزيلات الدهان والمُنظِّفات الجافَة، والهيدروكاربونات العطرية متعدِّدة الحلقات (polycyclic aromatic hydrocarbons) التي تدخل في صناعة كرات النفثالين والأسفلت وعملية حفظ الخشب، وثنائي كلورو الميثان (dichloromethane) وهو يدخل في صناعة مزيلات الدهان والأدوية الصيدلانية، والكلوروفورم (chloroform) الذي اصبحت استخداماته محدودة الآن بسبب تأثيراته الصحيّة، وهو يدخل في صناعة الزيوت والمطاط، وكان يُستخدَم في السابق كمخدر صيدلاني عام يؤخذ عن طريق الاستنشاق.
في عام 2012، صدر تقرير عن المجلس الوطني للبحوث (NRC) قام بالإضاءة على التحديات المستمرة في معالجة المواقع الجوفية المعقدة، فقد فرضت القيود التقنيّة عقبات أمام تحقيق الاستعادة الوظيفيّة الكاملة، حيث بقي البحث عن حل سحري بعيد المنال. ولذلك، اقترح التقرير، في مثل هذه الحالات، الانتقال الى مراقبة التخفيف الطبيعي الذي يتم عن طريق العمليات الكيميائية والكيميائية-الحيوية التي تُحدِثها التفاعلات والكائنات الدقيقة في باطن الأرض، وهي استراتيجية تُعرف بمراقبة التخفيف الطبيعي (MNA: monitoring natural attenuation).
كانت بداية ظهور مفهوم الـ MNA في المشهد الهيدروجيولوجي والبيئي عام 1985، حيث أجرى فريق من العلماء في جامعة واترلو دراسة ميدانية تجريبية اعتمدوا فيها على مراقبة التخفيف الطبيعي للتصدي للتلوُّث، وأظهرت النتائج أن الطبيعة تمتلك القدرة الفائقة على تحليل وتفكيك هذه المواد الضارة تدريجيًا. ثم توالت الدراسات والأبحاث في التوسع، وكان لها تأثير كبير في تطوير فهمنا لكيفية تفاعل الملوثات في التربة والمياه الجوفية. وبالتالي، ظهرت ثلاثة مراحل للدليل على فعالية استراتيجيّة الـ MNA. المرحلة الأولى هي إثبات فقدان الكتلة التاريخي، حيث يتعيّن على العلماء إظهار أن الكميّة الضارّة من المُلوِّثات تقلّ تدريجيًا مع مرور الوقت. أمّا المرحلة الثانية فهي تعتمد على البيانات الجيولوجيّة والكيميائيّة للتربة والمياه الجوفيّة، حيث يمكن للباحثين فهم سبب تحلّل المُلوِّثات ومعدّل التحوُّل. ويبقى في المرحلة الثالثة استخدام الدراسات الميدانية أو دراسات النماذج المخبريّة المُصغّرة (الميكروكوسمات microcosms) للتحقُّق من أنماط تفاعل مُحدّدة.
بإمكانك تخيُّل العمليّات التي تعمل الـ MNA على مراقبتها كفريق رياضي، حيث تعمل مجموعة مختلفة من العمليّات بشكل متزامن، والهدف الذي ننتظره من المراقبة هو محصِّلة هذا العمل الجماعي، وفي هذه الحالة يشمل الجزء الجوفي من الفريق العمليّات الكيميائية-الحيويّة التي تحرزها الكائنات الدقيقة والتفاعلات غير الحيوية والنظائر، أمّا الجزء الآخر من الفريق، فوق سطح الأرض، فهو يشمل الميكروكوسمات والنماذج الحاسوبية.
تعتمد نظم الـ MNA على مراقبة ثلاثة ركائز أساسيّة: التحلّل (biodegradation) والتحويل (transformation) والاحتجاز (sequestration)، ويمكن تشبيهها بكرسي بثلاث قوائم، حيث نحتاج إلى كل قائمة من أجل الثبات؛ فبينما يتكفّل التحلّل بتحطيم الملوثات، يعمل التحويل على تغيير تركيبة المعادن التي لا يمكن تدميرها وتحويلها الى مواد غير فعّالة عن طريق تفاعلات الاختزال والأكسدة (redox reactions)، فيما يعمل الاحتجاز على عزلها داخل المواد الصلبة في الطبقة الجوفية، ممّا يعيق حركتها ويمنع تسرّبها إلى طبقة المياه.
نموذج لعمليّات التخفيف الطبيعي. المصدر: URS
توفِّر لنا أدوات فحص الأحياء الدقيقة دعمًا قويًا على صعيد إيجاد الأدلّة الداعمة لنظم الـ MNA، ورغم أنها لا تكفي وحدها لتقديم التأكيد القاطع على جدوى عملية المراقبة، إلا أنها مؤشر بالغ الأهمية، وقد أصبحت هذه المؤشِّرات أكثر تأثيرًا خلال العقد الماضي بفعل التقدُّم التقني الذي تم إحرازه في هذا الميدان. ويهدف استخدام هذه الأدوات في نظم الـ MNA إلى إظهار وجود الكائنات الحيّة الدقيقة والإنزيمات المهمّة بكميات وفيرة. ويكمن التحدي الأكبر في الاعتماد على هذا العامل في صعوبة التمييز بين الكائنات الدقيقة النشطة والخاملة، بيد أن التقنيّات التي تعمل على ربط التعبير الجيني بالنشاط الحيوي هي قيد التطوير.
تعمل النظائر مثل بصمات الأصابع الفريدة للملوِّثات، وهي تشكّل مؤشرًا هامًا تراقبه الـ MNA، ومن خلال تحليل هذه البصمات، تصبح عملية تحديد المصدر أكثر سهولة، وبالتالي يصبح بالإمكان رسم مجال الانتشار الذي تتّخذه الملوثات بشكل أكثر دقة. كما تظهر الاكتشافات الحديثة أن بعض المعادن بإمكانها تحليل المذيبات المكلورة تحت ظروف بيئية محدددة، فعلى سبيل المثال، يمكن للمغنتيت تدمير ثلاثي كلورو الإيثيلين، ممّا يفتح الباب أمام استكشاف عوامل جديدة للمراقبة.
تعمل البرامج الحاسوبية مثل REMChlor و REMFuel ككرات بلورية عاكسة للبيئة المُراقَبة، حيث تساعدنا هذه الأدوات على محاكاة كيفية عمل التخفيف الطبيعي في موقع معيّن، والتدخل عند اللزوم للتزويد بمجموعات البكتيريا أو محفزات التفاعل، إضافة إلى التنبؤ باستجابة نطاق التلوُّث لاستراتيجيات المعالجة المختلفة.
إنَّ نُظُم الـ MNA تطرح نهجًا في المعالجة يركز على الاستفادة من الأنظمة الطبيعية، مع الاستثمار لمنظومة المعرفة المنبثقة من علوم الهيدروجيولوجيا والكيمياء والأحياء الجزيئيّة. وما يُميِّز الـ MNA عن غيرها من نُظُم المعالجة هو أن المراقبة هنا هي التي تهيمن على المشهد عِوضًا عن التدخل المباشر، فهي أشبه بإجراء حوار مع الطبيعة، وهو حوار يتطلب فهمًا وتأملًا عميقا لتفاعلاتها وروابطها المُعقّدة.