مصر نحو مستقبل أخضر: الاقتصاد الدائري كمحرك للتنمية المستدامة
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 31 أغسطس 2024
تواجه مصر، مثل العديد من الدول النامية، تحديات بيئية واقتصادية متزايدة. من بين هذه التحديات، تبرز مشكلة إدارة النفايات وتلوث البيئة. تواجه مصر تحديات جديدة تتطلب حلولاً مبتكرة. فمشكلة التلوث وإدارة النفايات تلوح في الأفق، تهدد مستقبل الأجيال القادمة. وفي ظل هذه الظروف، يظهر الاقتصاد الدائري كنموذج واعد لتحقيق التنمية المستدامة في مصر.
والاقتصاد الدائري هو النموذج الاقتصادي الذي يهدف إلى القضاء على النفايات وإعادة استخدام الموارد إلى أقصى حد. وتتوق مصر إلى مستقبل أكثر خضرة واستدامة. وللوصول إلى هذا الهدف، يجب علينا التفكير في إعادة هيكلة اقتصادنا. ويقدم الاقتصاد الدائري لنا نموذجاً بديلاً، يعتمد على إعادة تدوير الموارد واستخدامها بشكل مستدام. فبدلاً من التخلص من النفايات، يمكننا تحويلها إلى موارد قيمة.
فما هو الاقتصاد الدائري وكيف يمكن أن يساهم في حل المشكلات البيئية والاقتصادية التي تواجهها مصر؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا التقرير.
الاقتصاد الدائري: مفهوم وأهميته
الاقتصاد الدائري هو نظام اقتصادي يهدف إلى القضاء على النفايات والتلوث من خلال إعادة استخدام المنتجات والمواد لأطول فترة ممكنة. بدلاً من النموذج التقليدي “الإنتاج والاستهلاك والتخلص”، ويركز الاقتصاد الدائري على إعادة تدوير المواد وإصلاحها وإعادة استخدامها.
أمثلة عملية للاقتصاد الدائري في مصر
لتوضيح مفهوم الاقتصاد الدائري بشكل أكبر، يمكننا استعراض بعض الأمثلة العملية مثل:
• صناعة النسيج: إعادة تدوير مخلفات القطن والملابس القديمة لإنتاج ألياف جديدة.
• صناعة البناء والتشييد: استخدام مواد البناء المعاد تدويرها مثل الطوب والخرسانة.
• الزراعة: تطبيق ممارسات الزراعة المستدامة مثل الزراعة العضوية وإعادة تدوير المخلفات الزراعية.
• إدارة النفايات: تحويل النفايات العضوية إلى سماد، والنفايات البلاستيكية إلى منتجات جديدة.
• السياحة المستدامة: تشجيع السياحة البيئية والاعتماد على الموارد المحلية.
الوضع الحالي للاقتصاد الدائري في مصر
على الرغم من التحديات، بدأت مصر في اتخاذ خطوات نحو تبني الاقتصاد الدائري. تشمل هذه الخطوات:
• مبادرات حكومية: أطلقت الحكومة المصرية العديد من المبادرات لدعم الاقتصاد الدائري، مثل مبادرات إعادة التدوير وتشجيع الاستثمار في المشاريع الصديقة للبيئة.
• مشاركة القطاع الخاص: بدأ القطاع الخاص المصري في تبني ممارسات الاقتصاد الدائري، مثل استخدام مواد معاد تدويرها في تصنيع المنتجات وتطوير حلول مبتكرة لإدارة النفايات.
• وعي مجتمعي متزايد: يزداد الوعي المجتمعي بأهمية الاستدامة والحفاظ على البيئة، مما يشجع الأفراد على تبني سلوكيات صديقة للبيئة.
دور الحكومة في دعم الاقتصاد الدائري
تلعب الحكومة دوراً حاسماً في تحفيز الانتقال نحو الاقتصاد الدائري. يمكنها ذلك من خلال:
• وضع سياسات وتشريعات داعمة: سن قوانين تحفز الاستثمار في مشاريع الاقتصاد الدائري وتفرض ضرائب على المنتجات غير الصديقة للبيئة.
• توفير الحوافز المالية: تقديم حوافز مالية للشركات التي تعتمد على ممارسات الاقتصاد الدائري، مثل الإعفاءات الضريبية والقروض الميسرة.
• بناء الشراكات: تعزيز الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لتنفيذ مشاريع مشتركة.
• الاستثمار في البحث والتطوير: دعم الأبحاث التي تهدف إلى تطوير تقنيات جديدة لمعالجة النفايات وإعادة تدوير المواد.
• التوعية المجتمعية: تنظيم حملات توعية واسعة النطاق لزيادة الوعي بأهمية الاقتصاد الدائري وكيفية المشاركة فيه.
أهمية الاقتصاد الدائري لمصر:
• الحفاظ على الموارد الطبيعية: يساعد في تقليل الضغط على الموارد الطبيعية المحدودة في مصر.
• تقليل التلوث: يقلل من كمية النفايات والتلوث الناتج عن العمليات الصناعية والاستهلاك.
• خلق فرص عمل: يعزز من خلق فرص عمل جديدة في قطاعات إعادة التدوير وإدارة النفايات.
• تعزيز النمو الاقتصادي: يساهم في تحفيز النمو الاقتصادي من خلال خلق أسواق جديدة للمنتجات والخدمات المستدامة.
• تحسين الصحة العامة: يقلل من المخاطر الصحية المرتبطة بالتلوث.
التحديات التي تواجه الاقتصاد الدائري في مصر
• نقص الوعي: لا يزال هناك نقص في الوعي بأهمية الاقتصاد الدائري وفوائده لدى الكثير من الأفراد والشركات.
• نقص الخبرة: قد يفتقر العديد من الشركات والمؤسسات إلى الخبرة اللازمة لتطبيق ممارسات الاقتصاد الدائري.
• البنية التحتية: تفتقر مصر إلى البنية التحتية اللازمة لدعم الاقتصاد الدائري، مثل مرافق إعادة التدوير الحديثة وأنظمة جمع النفايات الفعالة.
• الافتقار إلى الأسواق: قد يكون من الصعب العثور على أسواق للمنتجات المعاد تدويرها وإعادة استخدامها.
• التكلفة الأولية: قد تكون تكلفة تطبيق ممارسات الاقتصاد الدائري مرتفعة في البداية، مما يمثل عائقًا أمام بعض الشركات. وقد تكون تكلفة الاستثمار في التقنيات والبنية التحتية اللازمة للاقتصاد الدائري مرتفعة.
• برامج التدريب والتأهيل: تقديم برامج تدريبية للشركات والمؤسسات لتعزيز قدراتها على تطبيق ممارسات الاقتصاد الدائري.
• بناء شبكات التعاون: تسهيل التعاون بين الشركات والمؤسسات لتبادل الخبرات والتكنولوجيا.
• الحوافز المالية: توفير حوافز مالية لتشجيع الشركات على الاستثمار في التقنيات والبنية التحتية اللازمة.
• دعم الابتكار: تشجيع الابتكار في مجال الاقتصاد الدائري من خلال تنظيم المسابقات ومساندة المشاريع الناشئة.
• التشريعات: تحتاج التشريعات المصرية إلى مزيد من التطوير لدعم ممارسات الاقتصاد الدائري وتشجيع الاستثمار في هذا المجال.
دور القطاع الخاص والمجتمع المدني
لا يقتصر دور تحفيز الاقتصاد الدائري على الحكومة فقط، بل يلعب القطاع الخاص والمجتمع المدني دوراً حيوياً. يمكن للقطاع الخاص أن يعتمد على ممارسات الاقتصاد الدائري لتعزيز سمعته التجارية وزيادة كفاءته التشغيلية. أما المجتمع المدني فيمكنه من خلال الحملات التوعوية والضغط على صناع القرار المساهمة في دفع عجلة التحول نحو الاقتصاد الدائري.
التوصيات
يمكن للاقتصاد الدائري أن يكون حلاً مستدامًا للتحديات البيئية والاقتصادية التي تواجهها مصر. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذا الهدف جهودًا متضافرة من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. ومن أهم التوصيات لتحقيق ذلك الهدف:
• زيادة الوعي: يجب تنظيم حملات توعية واسعة النطاق لتوعية الجمهور بأهمية الاقتصاد الدائري وفوائده.
• تطوير التشريعات: يجب تطوير التشريعات لتشجيع الاستثمار في مشاريع الاقتصاد الدائري وتسهيل تطبيق ممارساته.
• الاستثمار في البنية التحتية: يجب الاستثمار في بناء البنية التحتية اللازمة لدعم الاقتصاد الدائري، مثل مرافق إعادة التدوير وأنظمة جمع النفايات.
• دعم البحث والتطوير: يجب دعم البحث والتطوير في مجال التقنيات والابتكارات التي تساهم في تحقيق الاقتصاد الدائري.
• الشراكات: يجب تعزيز الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لتنفيذ مشاريع الاقتصاد الدائري.
دور التكنولوجيا في الاقتصاد الدائري في مصر:
تلعب التكنولوجيا دورًا محورياً في تسريع الانتقال إلى الاقتصاد الدائري في مصر، حيث توفر حلولًا مبتكرة للتحديات البيئية والاقتصادية. إليك بعض الأمثلة على دور التكنولوجيا في هذا المجال:
1. تحسين إدارة النفايات:
• أنظمة فرز ذكية: استخدام أنظمة رؤية الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي لفرز النفايات بدقة وسرعة، مما يزيد من كفاءة عمليات إعادة التدوير.
• تحويل النفايات إلى طاقة: تطبيق تقنيات التحويل الحيوي لتحويل النفايات العضوية إلى طاقة كهربائية أو وقود حيوي.
• تتبع النفايات: استخدام التكنولوجيا لتتبع مسار النفايات من المصدر حتى التخلص منها أو إعادة تدويرها، مما يضمن إدارة أكثر كفاءة.
2. تحسين كفاءة الإنتاج:
• صناعة 4.0: تطبيق تقنيات التصنيع الذكي لتحسين كفاءة الإنتاج وتقليل الهدر، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد والروبوتات.
• تحليل البيانات: استخدام التحليلات الضخمة للبيانات لتحديد فرص تحسين الكفاءة في سلسلة التوريد.
• إدارة الطاقة الذكية: استخدام أنظمة إدارة الطاقة الذكية لتقليل استهلاك الطاقة في المباني والمصانع.
3. تطوير منتجات مستدامة:
• تصميم المنتجات: استخدام برامج تصميم بمساعدة الكمبيوتر (CAD) لتصميم منتجات قابلة لإعادة التدوير وإصلاحها بسهولة.
• مواد جديدة: تطوير مواد جديدة مستدامة، مثل البلاستيك الحيوي والمواد البيولوجية المتحللة.
• تمديد عمر المنتجات: استخدام التكنولوجيا لإصلاح وتجديد المنتجات، مما يطيل من عمرها الافتراضي ويقلل من الحاجة إلى إنتاج منتجات جديدة.
4. تعزيز الشفافية والمساءلة:
• سلسلة الكتل: استخدام سلسلة الكتل لتعقب حركة المنتجات والمواد الخام، مما يضمن شفافية سلسلة التوريد ويقلل من الاحتيال.
• منصات البيانات المفتوحة: توفير منصات بيانات مفتوحة لتمكين المواطنين والشركات من الوصول إلى المعلومات حول الأداء البيئي للشركات.
أمثلة على تطبيقات تكنولوجية في مصر:
• تطبيقات الهواتف الذكية: تطوير تطبيقات للهواتف الذكية لتسهيل عملية إعادة التدوير وتشجيع المشاركة المجتمعية.
• المشاريع البحثية: دعم المشاريع البحثية في مجال التكنولوجيا الخضراء والابتكارات المستدامة.
• الشراكات بين الجامعات والشركات: تعزيز التعاون بين الجامعات والشركات لتطوير حلول تكنولوجية مبتكرة.
التحديات والفرص:
• التحديات:
o تكلفة التكنولوجيا: قد تكون تكلفة تطبيق بعض التقنيات عالية.
o نقص المهارات: قد يكون هناك نقص في المهارات اللازمة لتشغيل وصيانة هذه التقنيات.
o البنية التحتية: قد تحتاج البنية التحتية الحالية إلى تطوير لاستيعاب هذه التقنيات.
• الفرص:
o خلق فرص عمل جديدة: ستؤدي هذه التقنيات إلى خلق فرص عمل جديدة في مجالات مثل البرمجة وتطوير التطبيقات وإدارة البيانات.
o تعزيز الابتكار: ستشجع هذه التقنيات على الابتكار وتطوير حلول مبتكرة للتحديات البيئية.
o تحسين الكفاءة: ستساعد هذه التقنيات على تحسين الكفاءة وتقليل التكاليف.
مما سبق، يظهر أن الاقتصاد الدائري ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة ملحة لمصر، حيث يمثل الاقتصاد الدائري فرصة كبيرة لمصر لتحقيق التنمية المستدامة وحماية البيئة. ومن خلال التغلب على التحديات الحالية والاستفادة من الفرص المتاحة، يمكن لمصر أن تصبح نموذجًا يحتذى به في المنطقة في مجال الاقتصاد الدائري. وتلعب التكنولوجيا دورًا حاسمًا في دفع عجلة التحول نحو الاقتصاد الدائري في مصر. من خلال الاستثمار في التكنولوجيا وتشجيع الابتكار، يمكن لمصر أن تحقق تقدمًا كبيرًا نحو مستقبل أكثر استدامة.
وفي خضم التحديات البيئية والاقتصادية التي تواجهها مصر، يظهر الاقتصاد الدائري كمنارة أمل. إنه نموذج يجمع بين الاستدامة والنمو الاقتصادي، ويقدم حلولاً مبتكرة لمشكلة النفايات وإدارة الموارد. من خلال تبني هذا النموذج، يمكن لمصر أن تؤكد مكانتها كقائد إقليمي في مجال الاستدامة، ويمكننا تحقيق التنمية المستدامة، وحماية البيئة، وخلق فرص عمل جديدة وترك إرثاً للأجيال القادمة. ومع ذلك، يتطلب هذا التحول جهودًا مشتركة من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. فهل نحن مستعدون لخوض هذه الرحلة نحو مستقبل أكثر خضرة؟
* د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي
– عضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg