مصدر ثري للقيم الجمالية والثقافية
السياحة الفنية تحرر الفكر وتخلق مسحات للتأمل وتجعل السياح اكثر تقبلاً للثقافات الأخرى
صنف افلاطون أنواع السياحة في اليونان القديمة إلى عدة اصناف وأعطى الأولوية للسياحة الفنية
أمام الركود الاقتصادي تحولت بعض الدول من الصناعة الى السياحة لضمان عوائد جديدة
تعد الفنون عنصراً أساسياً لمنح الجاذبية والجمال لوجهة سياحية معينة، وبقدر تقدير الفنون في المجتمعات، تزدهر السياحة الفنية التي تساهم في الرفع من مستوى ثقافة ومعارف الأفراد، لأنها تكسبهم قيماً جمالية وثقافية، نتيجة انفتاحهم على ثقافات وفنون جديدة، وأيضاً تساهم السياحة الفنية في تطوير الاقتصاد من خلال خلق فرص للعمل بشكل مباشر وغير مباشر. وقد منحت العديد من المجتمعات ومنذ قرون، الكثير من التقدير للفنون والثقافة، والسفر من أجل رؤية الأعمال الفنية ليس وليد الوقت الراهن، وإنما هو موجود منذ القديم، وقد صنف أفلاطون أنواع السياحة في عهد اليونان إلى عدة أصناف وأعطى الأولوية للسياحة الفنية. والفن اليوناني تلخص في النحت والهندسة المعمارية والمسرح، وكان سياح الفن يتم الترحيب بهم وتتم معاملتهم بكرم وتخصص لهم أماكن مميزة لإقامتهم ويخدمهم كهنة المعابد، وكان الهدف من السياحة الفنية في اليونان المتعة والتعلّم.
ويعرف عالم الاجتماع الأسترالي أدريان فرانكلين، السياحة الفنية بأنها: «نشاط يتضمن السفر لمشاهدة الفن، ويمكن أن يشمل الأشخاص الذين يسافرون خصيصاً لمشاهدة الفن… بالإضافة إلى أولئك الذين يقومون في كثير من الأحيان بتضمين زياراتهم لأماكن سياحية، مشاهدة الأعمال الفنية».
وهناك بعض المدن عبر العالم تعد مراكز للسياحة الفنية وتعرف تدفقاً كبيراً للسياح، ومن هذه المدن أبوظبي ودبي وروما ونابولي وأثينا وباريس ونيويورك ولندن وغيرها كثير. وأمام الركود الاقتصادي تحولت بعض الدول، من الصناعة إلى السياحة، من أجل تطوير اقتصادها لضمان دخل جديد، فاهتمت بالسياحة الفنية وأنشأت الفنادق والمتاحف، ونظمت المهرجانات الثقافية والفنية التي تشمل الموسيقى والمسرح، وأيضاً نظمت معارض فنية لجذب هواة الفن من جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى ترميم المآثر التاريخية والحفاظ عليها.
ونجد نوعاً آخر من السياحة الفنية يتركز على مشاهدة الأعمال الفنية لكبار الفنانين، حيث يسافر الكثير من السياح حول العالم، من أجل مشاهدة أعمال الفنانين الكبار، مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وفان جوخ وبول غوغان وكلود مونيه ورينوار ورامبرانت وغيرهم كثير، والإيرادات التي تتحقق من وراء هذا النوع من السياحة ضخمة جداً.
وبالإضافة إلى ما هو اقتصادي، فإن السياحة الفنية تحرر أيضاً الفكر، وتخلق مساحات للتأمل، وتعرّف بثقافة جديدة، وبالنتيجة تجعل هؤلاء السياح أكثر تقبلاً للأفكار الجديدة التي تولد إمكانية تطوير الشخصية من خلال إعادة تشكيل الذات وتحرير الفكر. والتشجيع على السياحة الفنية قام به الفلاسفة أيضاً، فجون لوك مثلاً في تناوله للفهم البشري ربط بين السفر والتعلم، لأن المعرفة لديه مستمدة من التحفيز الحسي الخارجي، وأكد على أن السفر يجب أن يكون جزءاً من حياة الفرد.
تجربة الإمارات
المدن ذات الخيارات الثقافية المتنوعة، كالمتاحف والمطاعم والمعارض الفنية ودور الأوبرا والمسارح، تستقطب السياح من كل مناطق العالم، ولذلك أصبحت العديد من الحكومات عبر العالم تبذل المزيد من الجهود لتطوير السياحة الفنية في بلدانها، والبلدان العربية لم تبق خارج التجربة، وسنمثل على ذلك بدولة الإمارات العربية المتحدة التي تعد الفنون جزءاً من هويتها، وأيضاً لوعي القيادة الإماراتية بأهمية الثقافة والفنون في الرفع من الذائقة الجمالية للأفراد سواء كانوا مواطنين أو مقيمين أو زواراً، وكذلك لوعيهم بأهمية الاستثمار في الثقافة والفن من أجل تطوير الاقتصاد، وحسب كريج واتسون مدير مجلس كاليفورنيا للفنون: «فإن الكلمة المناسبة اليوم لوصف استثمار المجتمعات في الفنون والثقافة هي «صناعة الأماكن الإبداعية»، مما يعني استخدام الفنون لتطوير منطقة يرغب الناس في العيش والعمل فيها وأيضاً قصدها من أجل السياحة»، وهذه المقولة تنطبق على ما تحقق بدولة الإمارات، حيث تم خلق أماكن إبداعية، ومن هذه الأماكن على سبيل المثال لا الحصر، صروح بدبي وأبوظبي، حيث تم فيهما ربط شراكة بين الفنون والسياحة والتنمية الاقتصادية، وهي أمور خلقت منهما وجهتين سياحيتين قويتين ومنافستين على المستوى العالمي، فما الذي تحقق بهما ثقافياً وفنياً لتحتلا هذه المكانة، وأصبحتا من الوجهات العالمية المفضلة، سواء للعيش والعمل فيهما أو من أجل السياحة؟
المنطقة الثقافية في السعديات بأبوظبي
للإجابة على السؤال سنمثل ببضعة أمثلة فقط، لضيق المجال، لأن الإمارات قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال، ولا يمكن حصر كل ما أنجزته في مقال واحد، والمثال الأول هو العاصمة أبوظبي التي تعد من الوجهات السياحية الفنية العالمية نظراً لاهتمام القائمين على شؤونها بالثقافة والفن، وتعكس منطقة السعديات الثقافية الحراك الثقافي والفني، وتضم العديد من الأماكن التي تعد محركاً للسياحة الثقافية فيها، فنجد فيها على سبيل المثال لا الحصر متحف اللوفر أبوظبي، الذي يعد توأمة ثقافية بين باريس وأبوظبي، وينافس أكثر المتاحف زيارة عبر العالم، مثل لوفر باريس، وهو ليس نسخة مكررة عنه وإنما حرص مصممه على جعل شكله الهندسي منسجماً مع خصوصية البيئة الإماراتية وثقافتها، ولذلك فإنه ليس ما يعرض في لوفر أبوظبي وحده ما يجذب السياح، وإنما شكله المعماري أيضاً، حيث يعد تحفة فنية، لأن مصممه حرص على أن يجعله منفتحاً على السماء والماء، كرمز لجعله مركزاً للانفتاح الثقافي والحوار الحضاري وتعبيراً عن روح الضيافة العربية.
الفعاليات الفنية والمتاحف من عوامل الجذب السياحي
ومن متاحف أبوظبي التي تختص بعرض تاريخ وتراث الإمارات المتعلق بالبحر، المتحف المائي، ويمتاز بتصميم فريد، وهو عبارة عن شراع تحركه الرياح، وتأخذ قاعاته هيئة القوارب الشراعية المُتحركة على سطح الماء، كما يضم حوض أسماك تعيش فيه عشرات الفصائل من الأحياء المائية، ويضم أيضاً تراث الإمارات البحري من قوارب صيد وغيرها. أما متحف زايد الوطني فيتكون من خمسة أشكال تبدو على هيئة ريش جناح الصقر المتصل بالسماء، والصقر يعد من أهم رموز الموروث الثقافي في دولة الإمارات، ومحتوياته تعرّف بحضارة الإمارات وبتاريخها وبإسهامات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» في النهوض بالدولة، وتحيط بمتحف زايد مساحات خضراء، بالإضافة إلى مياه الخليج العربي.
والمثال الثاني دبي، بفنادقها الفخمة ومناطق الترفيه الكثيرة فيها، وعمارتها المستقبلية وأبراجها الذكية وأيضاً مناطقها التراثية، كما توفر أماكن تقديم الفنون والثقافة، وهذه الأماكن نفسها تعد تحفاً فنية، كالمكتبات ودور العرض والمتاحف، فأوبرا دبي مثلاً بعمارتها التي تجمع بين ما هو تراثي ومستقبلي، يشير شكلها الهندسي إلى السفن وقوارب الصيد في دلالة على التراث الإماراتي، وتعد منصة عالمية للفنون والثقافات، وتقدم فيها عروض لموسيقيين كلاسيكيين ومعاصرين مشهورين عالمياً وعروض مسرحية وفعاليات ثقافية وفنية، وكذلك عروض الباليه والأوبرا وما قاله صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، يوم افتتاحها يؤكد ذلك: «الموسيقى لغة عالمية، الفن رسالة إنسانية، والإبداع البشري تجربة ملهمة… أوبرا دبي تجمع لنا ذلك».
أما متحف المستقبل فيعد من المعالم السياحية بدبي لشكله البيضاوي الفريد، والذي تزخرفه الحروف العربية، ويعتبر من أكثر المباني تطوراً في العالم، ويضم هذا المتحف مختبرات للابتكار والاختراعات المستقبلية، وأكد ذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بقوله: «إن متحف المستقبل يتحدث العربية، ويجمع بين أصالتنا العربية وطموحاتنا العالمية»، أما «معرض آرت دبي» فيحتل مكانة مهمة بين المعارض العالمية، ويستقطب فنانين من كل أنحاء العالم لعرض أعمالهم الفنية في دوراته السنوية، حيث يستضيف في بعض الدورات فنانين من أكثر من أربعين دولة، ويعد المنصة الفنية الأكبر للفنون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا. وبذلك فإن دبي تعطي أولوية للثقافة والفن لوعي القائمين على شؤونها بدور السياحة الفنية في تحقيق التطور.
وبناء على ما سبق تتأكد أهمية السياحة الفنية، في النهوض بالمجتمعات والبلدان، لدورها المهم في تطوير الوعي الجمالي والثقافي للزوار وأيضاً مساهمتها في تحقيق التنمية وتطوير الاقتصاد.
المصدر: جريدة الاتحاد: د. حورية الظل، 05 اغسطس 2021