في سياق الرؤية البيئية المغربية.. النموذج التنموي الجديد يؤكد على أنَّ:
شبكة بيئة ابوظبي، عبد العالي الطاهري، مدير البرنامج الوطني للإعلام الإيكولوجي، المملكة المغربية 21 ديسمبر 2021
احتلت قضية البيئة، التي توجد في صلب السياسات العمومية للمملكة المغربية، مجددا واجهة النقاش العام من خلال تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي أحدثها جلالة الملك في نونبر 2019 لإطلاق مشروع غير مسبوق يروم بناء مجتمع مزدهر، منفتح وقوي بتعدديته وتنميته وبجماعاته الترابية المتصدية لمختلف تحديات الحاضر والمستقبل.
إنَّ التركيز على الاستدامة كأساس لخيارات التنمية يتماشى مع ضرورة تثمين الرأسمال الطبيعي وضمان المحافظة عليه للأجيال الحالية والمستقبلية، كما تؤكد على ذلك اللجنة التي سهرت على إعداد هذه النموذج التنموي الجديد، والتي تدعو إلى تعزيز حكامة الموارد الطبيعية.
ولتحقيق هذه الغاية، تعتبر الأستاذة بجامعة محمد الخامس بالرباط، أسماء العرباوي، أنه بات من الضروري تثمين وحماية الأنظمة البيئية ذات الهشاشة، وخاصة السواحل والواحات والجبال والغابات والمناطق الرطبة، وذلك من خلال تبني مقاربة للتدبير الجماعي إلى جانب العمل الذي تقوم به السلطات العمومية.
وأبرزت السيدة العرباوي أنه ينبغي على الدولة أن تتبنى نظاما ضريبياً بيئياً وطاقياً عادلا ومحفزا يمكِّن من الحفاظ على البيئة وعقلنة استهلاك الموارد المائية والطاقية، مشددة على ضرورة تحديث النظام التشريعي المعمول به وخاصة ظهير 1917 (حق استغلال الموارد الطبيعية والغابات) وظهير 1976 (استغلال الموارد الطبيعية من قبل الجماعة القروية دون عوض).
وقد كانت مسألة حماية التنوع البيولوجي والأنظمة الإيكولوجية الغابوية، باعتبارها رافعة أساسية لسياسة الاستدامة، في صميم انشغالات اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي.
وفي هذا الصدد، توصي الأستاذة الجامعية بالإسراع بتنفيذ برامج التكيف مع التغيرات المناخية المتعلقة بالقطاعات التي تعتبر الأكثر هشاشة، ويتعلق الأمر بالمياه والغابات والفلاحة، لافتةً إلى أن هذه البرامج تتمحور حول حماية الساكنة وأنظمة الإنتاج والتراث اللامادي للمغرب.
وتعتبر إشكالية المياه، بدورها، من أكثر القضايا إلحاحاً التي يتعين معالجتها من خلال مقاربة تُدمج بشكل كامل ندرتها وتعطي الأولوية للحفاظ على هذه المادة الحيوية على المدى البعيد، بالنسبة للأجيال الحالية والمستقبلية. وفي هذا السياق، تدعو اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بإحداث وكالة وطنية لتدبير الماء.
وترى السيدة العرباوي أن هذه الوكالة، التي يجب أن تكون مندمجة ويتسم عملها بالعقلنة والاقتصاد والاستدامة، ستتعامل مع تدبير الموارد المائية في أبعاده المختلفة، خصوصا الإدارية والتقنية واللوجستية.
كما ذكرت بأن التقرير شدَّد على الحاجة إلى تحسين استغلال كافة إمكانيات الاقتصادين الأخضر والأزرق، بما يتيح خلق القيمة في كافة أنحاء التراب الوطني.
وتشجع اللجنة، من خلال تقرير النموذج التنموي الجديد، على تبني استراتيجية موجهة للاقتصاد الأخضر ويتم تطبيقها على المستوى الترابي، مع التركيز على منطق الاقتصاد المحوري الذي يُدمج الخصائص والإمكانات المحلية، ولهذا ينبغي إيلاء اهتمام خاص لتطوير الفروع الصناعية الخضراء في مجالات الطاقة الشمسية والريحية، والتطهير السائل وتدبير النفايات.
ويرى رئيس معهد الدراسات السياسية والاقتصادية بإيطاليا دومينيكو لوتيسيا أن النموذج التنموي الجديد، الذي حظي بإشادة المجتمع الدولي، ويُمثل نقطة تحول في مسار التنمية وتطوير الاقتصاد الأخضر، يُعد مثالا يحتذى به لباقي بلدان إفريقيا وللمنطقة المتوسطية وكذلك لأوروبا.
وأبرز السيد لوتيسيا أن المغرب، أثبت مرة أخرى من خلال هذا النموذج التنموي الجديد، أنه بلد عصري يتطور باستمرار ويشهد دينامية تنموية سوسيو اقتصادية.
من جهته، أكد الخبير البرازيلي ماركوس فينيسيوس دي فريتاس، أن الأمر يتعلق ب ” مرحلة مهمة من تعبئة المجتمع المغربي التي تلوح في أفق 2035، إنها حلقة جديدة في ملحمة هذه الأمة”.
إنَّ النموذج التنموي الجديد، الذي يتم تجسيده طبقا للتعليمات السامية لجلالة الملك، يندرج ضمن أُفق بعيد المدى وفي سياق المسار التاريخي للدولة المغربية الذي يُتيح، عبر الارتكاز على الماضي التليد وكذا الأمس القريب، فهمًا أفضل للحاضر والتوجُّه نحو المستقبل.
ويتطلب ضمان مستقبل آمن للأجيال المقبلة، وهو الهدف ذو أولوية في هذا الورش الملكي، من كافة الفاعلين بالمجتمع التفكير بشكل مستدام وأخذ هذا البعد بعين الاعتبار، وبالتالي فإنَّ العمل المواطن والسياسات العمومية والاستثمارات الخاصة مدعوة للالتزام بهذه الرؤية الملكية الاستباقية والشاملة والمستدامة.
وارتباطاً دائما بالمجال البيئي في سياق مضامين النموذج التنموي الجديد، فقد أكد هذا الأخير على ضرورة مراعاة الأبعاد المرتبطة بالتغيرات المناخية، من خلال وضع أنماط إنتاج وتنظيم اجتماعي مبنية على قواعد تنمية مستدامة تستحضر مصالح الأجيال القادمة، وتضمن استدامة الأنساق البيئية الطبيعية والتنوع البيولوجي وحماية التراث الحيواني والنباتي والمحافظة عليه في مختلف المناطق. على مستوى طبيعة النمو ونمطه: التركيز أساسا على الرأسمال اللامادي وخاصة الرأسمال البشري، وعلى الثقافة والقيم وتدبير الحقل الديني، نظرا لأهميته الأساسية ودوره في بناء نماذج تنموية منسجمة مع الخصوصيات التاريخية والحضارية، بهدف التوفيق بين درجة النمو ونوعيته، ومستوى التنمية وطبيعتها، وإذا كان علينا أن نختار استراتيجيات اقتصادية للبيئة الطبيعية، يجب أن نبدأ بالتعرف على القيمة الاقتصادية الموجودة هناك بالفعل. يتمثل الاعتراف الأول في أنه في النهاية، ليس هناك رأس مال إلا ما تملكه الطبيعة، فرأس المال الشمسي-أي الطاقة المستمدة من الشمس، بجميع أشكالها- والمال الأرضي، من أحياء وغير الأحياء، يزودنا بكل ما نحتاج إليه، هذه بالفعل هي الأنظمة التي نعتمد عليها، وليس لنا مصدر آخر للثروة أو مدخل إلى الحياة. إنَّ تضافر جميع الجهود يهدف إلى بناء مغرب يكون بمثابة « مصنع أخضر » على الصعيد الإقليمي، ذي صناعة متصلة ودينامية وتضامنية ومدمِجة، ومن شأن هذه المقاربة، التي تُشكل كلاً متجانساً وغير قابل للتجزيء، أن تساهم في إعادة بناء الثقة والشفافية، من خلال تشجيع ومأسسة حوار مستدام ومسؤول، لتبقى الغاية المُثلى هي تحسين مستوى عيش المواطنين، نساءً ورجالاً، في كل جهات المملكة، من خلال نمو أكثر اطراداً وتقاسمٍ أكثر إنصافاً لمنافع النمو، ومن هذا المنطلق، المنبثق عنه موضوع نقاش وطني بين جميع الفاعلين والمفكرين؛ نقاش مفتوح وجرِّيء، مسؤول وتشاركي على نطاق واسع، وباعتبار أنَّ مشاكل البيئة كثيرة ومتنوعة، سواء في طبيعتها، أو أسبابها، أو بعدها التاريخي، أو مكانها وتموقعها الجغرافي، أو آثارها الراهنة والمتوقعة. ومن الواضح أنه ليس من المفيد ولا من الممكن التصدِّي لها جميعا في الوقت نفسه، وهو ما يتطلب إجراء خطط عمل من أجل حماية البيئة وتثمينها على مستويين: الأول: يعالج الأمر عن طريق صياغة برامج ومخططات قصيرة المدى، تعالج القضايا ذات الطبيعة الملحة، لتحقيق وثيرة أسرع وأبعاد أكثر عمقا في مواصلة تثمين وحماية البيئة. أما الثاني: فيتمثل في إعداد مخططات أخرى تجري على أطر زمنية أطول، متزامنة مع المخططات القصيرة، وتعالج القضايا التي تحتاج جهداً دؤوباً لفترات زمنية طويلة سعياً إلى تحقيق نجاح ملموس ومستدام في أحوال البيئة. ولا يتحقق ذلك إلى إذا اتجه النموذج نحو: 1- ترتيب أولويات العمل على أساس علمي رصين، يُفهم من خلاله طبيعة المشكلة وأسبابها، وظروفها، وتطورها مع مرور الوقت وتحليل كل المحاولات السابقة لمعالجتها، 2- العمل على وقف كل أسباب التدهور البيئي قبل التوجه نحو معالجة آثاره، 3- تعزيز القدرات لتطبيق أدوات الاقتصاد البيئي والاقتصاد الأخضر، 4- اعتماد إستراتيجية « الإنتاج الأنظف »، 5- تحقيق المزيد من المشاركة المواطنة والشعبية في برامج ومشاريع ومخططات وإجراءات حماية البيئة، 6- استحضار شرط الاستدامة تلبيةً لحاجيات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة في تلبية حاجياتها.
وأمام هذه التحديات كلها، لا محيد عن اعتماد استراتيجيات ابتكار وبحث علمي متواصل، وتجديد دائم للكفاءات، وانخراط في يقظة استراتيجية وتكنولوجية دائمة والتدبير التشاركي لمواكبة الواقع لتتمكن من كسب رهان ندرة الموارد بأنواعها الثلاثة، أولها ندرة الموارد الطبيعية كالماء والطاقة والأراضي الزراعية وأراضي الرعي والغابات والثروة السمكية، نتيجة التقلبات المناخية، والاستغلال المفرط لكل الموارد من طرف مقاولات وجماعات ترابية ودول لا تكترث كثيرا بالقضايا المرتبطة بالمحافظة على الموارد الطبيعية ولا بمصلحة الأجيال المقبلة، فيما النوع الثاني يتمثل في ندرة الموارد المالية لدعم النمو والاستجابة لمستلزمات التضامن، ومرَدُّ هذه الندرة، المتفاوتة درجاتها حسب الدول، ولكنها تهُمُّ الاقتصاد العالمي بمختلف مكوناته، إلى سيادة منطق المضاربة المرتبطة ببعض الشركات العالمية الكبرى، عوض منطق الإنتاج، أما النوع الثالث من الندرة، فهو دون شك أكثرها “خطرا” في الموارد البشرية من حيث التوافق بين الجودة والكفاءة الإبداعية وطبيعة التحديات التي تواجهها اقتصاديات ومجتمعات القرن الواحد والعشرين، ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الأنواع من الندرة إلى إضعاف الدول والحد من قدرات اقتصاداتها وخلق مناخ حقيقي من انعدام الأمن والاستقرار.
يُشكِّل تسيير البيئة وتدبير أمورها وإدراجها ضمن النموذج التنموي الجديد للمغرب، أحد المهام الكبرى التي يجب على جميع الفاعلين عبر تقديم مذكرات تنموية تستحضر البعد البيئي وتضعه ضمن أولوية أولوياتها، بل يتطلب أيضا إيجاد توازن بين مختلف المصالح الاقتصادية والبيئية لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود، قوامه الاستدامة والاستعمال الرشيد للموارد وتحقيق تنسيق وثيق للسياسات بين كافة المؤسسات المعنية بحماية البيئة. وإعمال المدخل التشاركي للتنمية، ويتعلق الأمر بالبعد التشاركي في تفعيل العمل التنموي، لأنَّ الملاحظ في ما سبق، أن هذا البعد لم يكن حاضرا في أغلب السياسات المنجزة أو على الأقل لم يتم تفعيله، ذلك أنَّ عدم إشراك المواطنين في المشاريع التنموية التي تعنيهم بالدرجة الأولى جعل كثيرا منها غير مكتمل، أو اتضح فيما بعد أنها لا تناسب الحاجيات الحقيقية للمعنيين بها، وعلى هدى ممَّا جاء في أبحاث علمية سابقة لواقع الرؤية البيئية ضمن النموذج التنموي المستدام، وأمام ضعف الموارد أو قابليتها للنضوب، وفي ظل تعاظم الحاجيات وتعقُّدها، أصبح لزامًا البحث عن سُبُل جديدة للتدبير العمومي تنبني على التعبئة الرشيدة للموارد وتوجيهها إلى منافذ ذات عائد مستدام، وبناءً عليه سوف نطرح عدد من المقترحات والمقاربات وملامح الرؤية البيئية ضمن النموذج التنموي المستدام للمرحلة القادمة: – تعرف الترسانة القانونية في المغرب بكونها ترسانة تضُمُّ أكثر من 1000 نص قانوني خاص بالبيئة، وهو ما يستدعي العمل على تجويدها لتتماشى مع التطورات والتحولات التي يعرفها المجتمع، والعمل على تجميعها في إطار مدونة بيئية شاملة وملزمة، إذ أن أهمية القاعدة القانونية تتجلى في إلزاميتها وارتباطها بالجزاء، الأمر الذي يستدعي كذلك اعتماد قضاء متخصص اعتبارا للمكانة المتميزة التي يحتلها في أي نظام رقابي، بالنظر لموقعه وقوته كسلطة مستقلة، وهو ما سيجعله وسيلة مهمة لحماية البيئة من كل الأضرار المحتملة.