شبكة بيئة أبوظبي: عبدالله بن محمد العصيمي، مـاجستـير إدارة البيئة، المملكة العربية السعودية 11 ديسمبر 2016
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحديث عن حماية البيئة والحفاظ عليها في الظروف الطبيعية هو أمرٌ من السهل الولوج فيه وإقناع الآخرين بأهميته، إلا أن الحديث عن حماية البيئة من تأثيرات الحروب والحفاظ على سلامتها في وجود الصراعات العسكرية هو أمرٌ في غاية التعقيد، ومن الصعب إقناع العامة بأهميته فضلاً عن المختصين، فالحرب هي بؤرة الخوف التي تُقَوِّضُ مفهوم الأمن الشامل بجميع أبعاده والتي أحد أركانه الأمن البيئي ذاته، “فمن فقد أمنه على ماله وأسرته، ومن فقد أمنه على نفسه التي بين جنبيه لن يكترث مطلقاً بأمن بيئته” هذه الصورة الذهنية التي تَطِيشُ بكفة الأمن البيئي عند مقارنته بالآثار الأخرى للحروب هي من أكبر العقبات والإشكالات التي تعترض طريق من يحاول تقديم البراهين والإثباتات على أهمية حماية البيئة في ظل الحروب. فللحروب المعاصرة تأثيرات إنسانية وجسدية مروعة، فهي تفتك بالآلاف، وتصيب عشرات الآلاف، وتشرد مئات الآلاف وربما الملايين، كما إن آثارها النفسية والاجتماعية تتجاوز من يخوضها لتصل إلى أُسرهم فترمل النساء، وتُيتم الاطفال، وتُسبب الألم والبؤس للمجتمع. وتتضاعف آثارها الاقتصادية لتشمل الشُح في الموارد، وتدمير البُنى التحتية وتنتهي بالفقر والمجاعة، وهذه الآثار المروعة لا تُقارن في نظر الكثيرين بالآثار البيئية للحروب والتي ستظهر بعد عشرات السنين من انتهاء الحروب.
وبالتالي فإن من ينظر للوهلة الأولى إلى موضوع “حماية البيئة في ظل الحروب” سيظن أن هذا الحديث من باب “الترف الفكري” لا أكثر، وأنه من الشؤون التي لا تؤثر كثيراً على حياة البشر ولا تمس مستقبلهم.
ومن المحتمل أن يواجه من يتصدى لإثبات “أهمية حماية البيئة في ظل الحروب” حججاً أخرى من المشككين بأهمية هذا الخطاب ومنها: أن الأجدر أن يتم توجيه هذا الخطاب للسياسيين وأصحاب القرار لأنهم هم المسؤولون عن بدء الحروب والقادرون على إنهائها، مع تضمين هذا الخطاب إيقاف هذه الحروب بشكلٍ نهائي بدلاً من السعي لحماية البيئة والحفاظ عليها في ظل استمرار هذه الحروب والصراعات.
والحقيقة إن كل هذه الحجج وإن كانت في ظاهرها قوية بما يكفي لإصابة المهتمين بحماية البيئة باليأس وخيبة الأمل، إلا أنه يمكن دحضها والرد عليها بشكل موضوعي وبأسلوب مُمنهج وذلك لإثبات الأهمية القصوى لحماية البيئة في ظل الحروب وخطورة استخدامها في الصراعات المسلحة الأمر الذي دعا الجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار قرارها رقم (56/4) وتاريخ 5 نوفمبر 2001م والقاضي بتحديد يوم 6 نوفمبر من كل عام بوصفه: “اليوم الدولي لمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية” [1]. وللرد على هذه الحُجج والإشكالات فإنه لابد من توضيح بعض الحقائق عن طبيعة ومدى الأثار المتعلقة بالحروب.
إن الآثار الإنسانية، والنفسية، والاجتماعية جميعها وكذلك الأثار الاقتصادية بالرغم من حدتها وتأثيراتها البالغ على حياة البشر وحضارتهم إنما هي آثار ٌمؤقتة تنتهي في وقت قصير نسبياً، فالتأثيرات النفسية والاجتماعية للحرب تزول عادةً بعد انتهاء الحروب واستتباب الأمن، أما الآثار المادية والاقتصادية فهي آثار مرهونة بقدرة الدولة على التعافي وإعادة البناء والإعمار وهي مدة تزيد أو تنقص بناءً على الكثير من العوامل المتداخلة، وحتى الآثار الإنسانية والجسدية من موت وإصابة وتشريد بالرغم من فداحتها فإنها سوف تنتهي بانتهاء الجيل الذي عاصر تلك الحرب، لكن الآثار البيئية للحروب هي آثار طويلة المدى تبدأ بنهاية الحرب وتستمر عشرات وربما مئات السنين بعدها، ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة التي تُؤكد هذه الحقيقة، فلا تكاد تخلو حرب من الحروب المعاصرة من آثار بيئية عميقة ومستمرة، فالإشعاعات الناتجة عن إلقاء القنبلة النووية على مدينة هيروشيما اليابانية في الحرب العالمية الثانية عام 1945م لازالت في بداية تأثيرها، وسوف تبقى في المستقبل إذا علمنا أن نصف عمر الإشعاع الصادر عن عنصر (اليورانيوم 235) هو 700 مليون سنة [2]، وهناك أطفال مشوهون لا يزالون يولدون حتى الآن، كما أن نسبة المصابين بسرطان الدم بين سكان مدينتي هيروشيما ونجازاكي تزيد تسع مرات عنها في سائر أنحاء اليابان. ومنذ انتهاء حرب فيتنام في عام 1975م حتى الآن ولد حوالي نصف مليون طفل مشوه بسبب مادة (الديوكسين Dioxin) التي ألقاها الجيش الأمريكي بآلاف الأطنان لإزالة الأحراش والغابات التي يختبئ فيها المقاتلون مما أحدث تسمماً واسعاً لنطاق البيئة وأحيائها[3]، وفي الوقت الذي ودع فيه العالم قدامى المحاربين الذين قاتلوا في معركة العلمين 1942م بالحرب العالمية الثانية لا تزال هناك ملايين الالغام في منطقة الصحراء الغربية بمصر تُعيق العديد من مشاريع التنمية واستصلاح تلك الأراضي والتي تبلغ مساحتها 220319 كلم2، ولا يستطيع أي مواطن مصري عبورها أو لمس ذرة تراب منها [4]، وتشير الأرقام إلى أنه منذ عام 1982م بلغت الخسائر البشرية لتلك الألغام 8313 منهم 696 قتيلاً و7617 جريحاً، وإذا علمنا أن 22% من ألغام العالم موجودة في مصر[5]، تبين لنا أن التأثيرات البيئية للحروب هي أطول عمراً وأعمق أثراً من بقية التأثيرات الأخرى لها.
أن الحديث عن حماية البيئة في ظل الحروب ليس حديثاً قليل الأهمية، وليس ترفاً فكرياً كما يظن الكثيرون، ولكن الانسان عادةً ما يُصنف بعض الأمور في ذيل قائمة اهتماماته بالرغم من أهميتها القصوى، وذلك لاعتياده على وجودها واقتناعه بدوامها، ولو فقد الإنسان أمنه البيئي ولو ليوم واحدٍ فقط، ليجد طعامه قد صار مُشعاً، وماءه مُسمماً، وهواءه ملوثاً، حينها سيُدرك هذا الإنسان قيمة البيئة وأهميتها، وسوف لن يدخر جهداً لحمايتها وحفظها.
إننا (عادة ننظر إلى الحرب من منظور ضيق كمشكلة أخلاقية فقط ونادراً ما نسمع عن الحيوانات والنباتات البريئة التي تُدَمَّر، والمساحات الهائلة التي يجتاحها التلوث ولكن فيما مصادر الطبيعة تواصل الانكماش سنُرغَم يوماً على البدء بأخذ الضرر الذي نُلحقه بالطبيعة بعين الاعتبار)[6].
والمؤسف حقاً أن الحروب في التاريخ البشري هي القاعدة أما حالة السلم فهي الاستثناء، فالسلام أصبح هدنةً بين حربين، لذا فإنه من الصعب منع الحروب في العالم أو إيقافها، فعدد الحروب التي نشبت في العالم تضاعفت بعد تأسيس هيئة الأمم المتحدة منذ أكثر من سبعين عاماً، وهيئة الأمم المتحدة ذاتها قامت على أنقاض عصبة الأمم التي فشلت في بسط الأمن والسلام، فالحديث عن منع الحروب وإيقافها هو حلمٌ بعيد المنال، ورغبة إنسانية تتوارثها الأجيال، ولكن الخطير في الأمر هو ما استجد في أساليب الحروب الحديثة، فقد أصبحت (لجميع الحروب تقريباً استراتيجية أساسية واحدة هي: تدمير النظم المؤازرة للحياة حتى تُذعن الجيوش والشعوب. وهي تستخدم القصف الشامل للمدن والبنى التحتية والحرق والتدمير الكيميائي والآلي للغابات والمحاصيل، والتدابير التي تجعل الحياة مستحيلة في مساحات كبيرة)[7].
إن القانون الدولي الإنساني يهدف (للحد من تأثير النزاعات المسلحة، وحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال كالمدنيين، أو الذين لم يعودوا طرفاً في القتال مثل الجنود المصابين، كما يرمي إلى الحد من الوسائل المستخدمة في الصراع أملاً في التخفيف من الخسائر البشرية والمادية) [8] وهو بما فيه من قوانين وضوابط لا يرقى لمناقشة منع الحروب أو إيقافها بل هو عبارة عن مواد مُوجَّهة في أغلبها للقادة العسكريين والمقاتلين في الميدان.
لذا فإن المبادئ الدولية المقترحة لحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة التي أقرتها مؤخراً لجنة القانون الدولي بالجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السابعة والستين بجنيف في أغسطس من عام 2015م إنما تهدف إلى تعزيز حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة من خلال تدابير وقائية وإصلاحية، وتقليل الأضرار العرضية التي قد تلحق بالبيئة أثناء النزاع المسلح إلى أدنى حدٍ ممكن [9]، ولا تهدف أبداً لإقناع السياسيين بإنهاء الحرب.
إن إفساد الأرض لا يقل خطراً عن سفك الدماء، وتدميرها لا يقل جُرماً عن قتل الأبرياء، وقد ساوى القرآن الكريم بينهما على لسان الملائكة في قوله تعالى: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)[10] بل إنه “جل وعلا” قَدّمَ الإفساد في الأرض على سفك الدماء لعظيم أثره، ودوام آثاره، وليس هناك فساداٌ أعظمَ مما تسببه الحروب على البيئة الطبيعية بما فيها من تربةٍ وماءٍ وهواء وامتداد تأثيرها للثروة الحيوانية والحياة البحرية حتى تأتي في النهاية على ذلك الإنسان الذي بدأ تلك الحروب وأشعل فتيلها.
عبدالله بن محمد العصيمي
مـاجستـير إدارة البيئة، المملكة العربية السعودية
المراجع:
نصف العمر هو المدة الزمنية اللازمة لمادة نشطة إشعاعياً لتتحلل حتى تصبح بنصف كميتها.
[1] (الجمعية العامة، الدورة السادسة والخمسون، الجلسة العامة 37، البند 171 من جدول الأعمال، 5 نوفمبر 2001).
[2] (د. ممدوح عبد الصبور، اليورانيوم استخداماته وآثاره الضارة وسلوكه في البيئة، مجلة أسيوط للدراسات البيئية، العدد 29، يوليو 2005، ص119).
[3] (رشا محمد، السياسة الأمريكية تجاه قضايا حقوق الإنسان في الصين، مجلة التربية والعلم، المجلد ١٩، العدد ٥، 2012، ص207).
[4] (جلال البدري، 22 % من مساحة مصر مُلغمة.. الأرض المحرمة على أهلها، تحقيق صحفي، موقع البديل، 9 ديسمبر2014م، http://elbadil.com).
[5] (عدي إبراهيم، الموت يسكن صحراء مصر الغربية، تحقيق صحفي، البوابة نيوز، 30/10/2014م).
[6] (هاني كرم، تأثير الحرب على البيئة الخطر الذي لا نراه، مجلة الخط الأخضر الكويتية http://www.greenline.com).
[7] (عماد سعد، الحـرب على البيـئة أمثلة من العـراق ولبنــان وفلسطـين، مقال في شبكة أبوظبي البيئية http://www.abudhabienv.ae/news).
[8] (القانون الدولي الإنساني. موسوعة الجزيرة. مفاهيم ومصطلحات. شبكة الجزيرة الإعلامية http://www.aljazeera.net).
[9] (ماري غ. جاكوبسون، التقرير الثاني عن حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، لجنة القانون الدولي بالجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة السابعة والستين. جنيف، أغسطس 2015).
[10] (سورة البقرة آية رقم 30).