شبكة بيئة أبوظبي: عبدالله بن محمد العصيمي، مـاجستـير إدارة البيئة، المملكة العربية السعودية 16 يناير 2017
في بدايات الصراع على هذه الأرض كانت الأسلحة المستخدمة في الحروب عبارة عن “أسلحة ثاقبة” وهي أسلحة بدائية كالسهام، والرماح، والسيوف وكانت تهدف فقط إلى قتل البشر دون أن تترك أثراً في البيئة، وحتى بعد اختراع البارود لم يتغير كثيراً الغرض من هذه الأسلحة وظلت آثارها السلبية مرهونةً بانتهاء الحرب.([1])
إلا أنه مع مرور الوقت ازداد الأثر السلبي للحروب باتجاه تلويث البيئة، علاوةً على الفتك بالبشر، وانتشر حينذاك حرق المحاصيل، وتسميم المياه، وتدمير الحصون والقلاع باستعمال المنجنيق وغيره من الوسائل البدائية لقهر الشعوب وإجبارها على الإذعان. وبالرغم من أن هذه السلوك المضر بالبيئة لم يكن يترك آثاراً مستطيلة، إلا أنه لم يكن يحض بالقبول من عقلاء القادة، وكان محل ازدراء الأمم المتحضرة، فأجمعت على نبذه في رسائلها ووصاياها، ولعل أشهرها وصية أبي بكر الصديق لجيش أسامة “رضي الله عنهما” والتي جاء فيها: (ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه… إلخ) ([2]).
أما في العصر الحديث ومع انجراف الأمم للصراعات بحثاً عن الموارد، ولهثاً وراء التوسع، فقد اخترع الإنسان أسلحةً لا تكتفي بقتل البشر، بل تتعدى ذلك إلى تدمير الحضارة وإفساد التوازن البيئي، ويمكن اعتبار “الأسلحة المتفجرة” التي بدأت باختراع (الديناميت) على يد المهندس السويدي (ألفريد نوبل 1867م) هي الشرارة الأولى التي توالت بعدها نكبات الحروب على البيئة، فمنذ ذلك الوقت تَفَنَّنَ الإنسان في ابتكار أنواع الأسلحة والذخائر التقليدية والألغام، ولم يكتفي بذلك بل سعى لامتلاك الأسلحة المحرمة دولياً كالقنابل العنقودية، وقنابل النابالم والفسفور، ثم قام بتطوير الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وبذلك تنامت الأخطار البيئية للحروب شيئاً فشيئاً، حتى وصلت ذروتها في نهاية الحرب العالمية الثانية باستخدام القنابل النووية على مدينتي “هيروشيما ونجازاكي”، فكانت الآثار البيئية الناتجة عنهما هي الأعظم على الإطلاق. ورغم شمول الأخطار البيئية للحروب وانتشارها، إلا أن تشريعات حمايتها لم تكن بمستوى الخطر، فمن يتتبع تاريخ تلك القوانين يمكنه رصد أربعة مراحل تاريخية للمعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية البيئة وهي كالتالي:
الاتفاقيات العامة المتعلقة بحظر ومنع انتشار الأسلحة النووية. هذا النوع من المعاهدات بالرغم من أنها لم تكن تستهدف في الأساس حماية البيئة في الحروب، إلا أنها كانت تُمثل الخطوة الأولى في طريق سَن التشريعات الأولية لحمايتها، فقد كانت معاهدة موسكو عام ١٩٦٣م المتعلقة بحظر إجراء تجارب الأسلحة النووية في الجو وفي الفضاء وتحت الماء، ثم معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية لعام ١٩٦٨م هي البداية (والمتأمل في قانون حماية البيئة يدرك أنه لم تبرم اتفاقية دولية خصيصاً لحماية البيئة من التلوث بالمواد النووية، بل إن القواعد التي تُحقق تلك الحماية وردت أساساً في اتفاقيات دولية أُبرمت أصلاً بين الدول النووية لخفض التسلح أو عدم انتشار الأسلحة النووية، غير أنها تخدم البيئة بطريق غير مباشر) ([3]).
المعاهدات الصريحة لحماية البيئة في الحروب. مع كل الآثار التدميرية للحروب الكونية إلا أن (حماية البيئة لم تُناقش كمسألة قائمة بذاتها في معاهدة تنطبق صراحة على النزاعات المسلحة إلا في عام 1976م، فالمعاهدات الأسبق لم تُشر إلى البيئة بتاتاً، وكان نوع الحماية الوحيد المكفول لها ينبثق من حقوق الملكية والموارد الطبيعية) ([4])، وكانت معاهدة “التغيير البيئي” عام 1977م هي أول اتفاقية دولية تُصرّح بوضوح بحظر استخدام البيئة الطبيعية كوسيلة حرب، حيث أنها تمنع استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى(*)، وبعد ذلك بعامين زِيد على المعاهدة “البروتوكول الإضافي الأول” لاتفاقية جنيف، والذي ورد في المادة الخامسة والثلاثين منه نصاً ملزماً (يحظر استخدام وسائل أو أساليب للقتال، يُقصد بها أو قد يُتوقع منها أن تُلحق بالبيئة الطبيعية أضراراً بالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد) ([5]).
نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. هو اتفاق أُقر في العاصمة الإيطالية عام 1998م ودخل حيز النفاذ في 2002م ويُعد تتويجاً لجهودٍ استمرت طويلاً بهدف إقامة كيان دولي مستقر يتولى المحاسبة على ما تشهده الحروب الحالية من انتهاكات، ويتضمن 128 مادة، ورد في مادته الثامنة نصاً لحماية البيئة في النزاعات المسلحة (يحظر تعمد شن هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية يكون إفراطه واضحاً بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة).([6])
المبادئ “المقترحة” لحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة. تُعد هذه المبادئ هي المستقبل لقوانين حماية البيئة في ظل النزاعات المسلحة، لأنها ستُشكل بعد المصادقة عليها أول قرار دولي يختص بحماية البيئة في الحروب، وقد بدأت المداولات والمناقشات لإقرار مسودتها في أغسطس من عام 2015م من قِبل لجنة القانون الدولي في دورتها السابعة والستين بجنيف، وقد جاء في ديباجتها “المقترحة” خمسة مبادئ كالتالي:
المبدأ الأول. (البيئة الطبيعية مدنية بطبعها ولا يجوز أن تُشكل هدفاً للهجوم ما لم وإلى أن تصبح أجزاءً منها هدفاً عسكرياً. ويجب احترام البيئة وحمايتها تمشياً مع القانون الدولي الساري ولا سيما القانون الدولي الإنساني).
المبدأ الثاني. (أثناء النزاع المسلح تُطبق المبادئ والقواعد الأساسية للقانون الدولي الإنساني بما في ذلك مبادئ اتخاذ الاحتياطات أثناء الهجوم، والتمييز، والتناسب، والقواعد المتعلقة بالضرورة العسكرية على نحو يُمكن من تعزيز حماية البيئة إلى أقصى حد ممكن).
المبدأ الثالث. (يتعين وضع الاعتبارات البيئية في الحسبان لدى تقييم ما هو ضروري ومتناسب في السعي لتحقيق أهداف عسكرية مشروعة).
المبدأ الرابع. (تُحظر الهجمات التي تُشن على البيئة الطبيعية بهدف الانتقام).
المبدأ الخامس. (ينبغي للدول أن تُحدد المناطق ذات الأهمية الإيكولوجية الكبرى باعتبارها مناطق مجردة من السلاح قبل بدء النزاع المسلح أو على الأقل في بدايته) ([7]).
وعند النظر في هذه المبادئ يتضح أنها صِيغت بحذر لتجنيب البيئة كل أذىً ممكن قبل بدء النزاع وأثناء استمراره، كما نلاحظ أنها جاءت متسقة ومتوافقة في بعض موادها مع القانون الإنساني للحرب: فالتمييز، والتناسب، والضرورة العسكرية، والحد من الأضرار الجانبية هي مبادئ أساسية للقانون الإنساني للحرب.
“فمبدأ التمييز” هو قاعدة أساسية في قانون النزاعات المسلحة. وقد كفل هذا المبدأ احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية. وفي الوقت نفسه يُحدد ما يمكن استهدافه بصورة قانونية خلال النزاعات المسلحة. و”مبدأ التناسب” يمنع القائد من إلحاق المعاناة، أو الإصابة، أو الدمار لغير المحاربين بوسائل غير متناسبة مع الضرورة العسكرية، فلا يحق للقائد تدمير مدينة بكاملها، لمجرد تدمير بضعة أهداف عسكرية تحتويها هذه المدينة. أما “مبدأ ضرورة الحل العسكري” فهو يُعطي للقائد حق استخدام القوة غير المحظورة، أو المحرمة لتحقيق أهداف عسكرية مشروعة ولكن بأقل قدر ممكن من الخسائر في الموارد البشرية والمادية ([8]). كما أن “الحد من الأضرار الجانبية” هو أيضاً مبدأ أساسي لتوفير الحماية للأهداف المكونة من السكان المدنيين والبيئة الطبيعية، وهذا المبدأ يُحرّم نشر المعاناة، أو الإصابة، أو الدمار غير الضروري لتحقيق الأهداف العسكرية المشروعة، وتجنيب مالا يُشكل هدفاً عسكرياً كل الأضرار التي لا داعي لها. كما تحمي هذه المبادئ من الأضرار التي تتعرض لها البيئة جراء العمليات القتالية الناتجة عن الانتقام أو الإهمال أو العشوائية. وهي تُلزم الدول بالإفصاح عن المناطق التي تنطوي عليها أهمية أيكولوجية بارزة، لمنحها أولوية الحفظ والحماية الدولية.
إن التفاؤل بمستقبل المصادقة على “مشروع المبادئ المقترحة”، يجب ألا يأخذنا بعيداً عن الماضي المتواضع من ناحية المصادقة على المعاهدات السابقة، أو الحاضر المؤلم من ناحية الالتزام الفعلي بهذه الاتفاقيات في الحروب المعاصرة، فحتى يوم 12 فبراير 2015 كانت هناك 76 دولةً فقط تُعد طرفاً في الاتفاقية المتعلقة بتقنيات التغيير البيئي، و174 دولة طرفاً في البروتوكول الإضافي الأول، و123 دولة طرفاً في نظام روما الأساسي، ويعود السبب في قلة الدول الموقعة على الاتفاقيات البيئية أن دول العالم أصبحت حذرةً جداً في التوقيع على أي التزامات بقواعد جديدة.([9])
أما من ناحية الالتزام الفعلي بهذه الاتفاقيات فيكفينا أن نُلقي نظرةً خاطفة على واقع الحروب اليوم لنرى مدى التساهل والاستخفاف بحُرمة دم الانسان، هذا (الإنسان الذي يتربع على رأس الهرم البيئي بين كافة الكائنات الحية على سطح الأرض) ([10])، والحقيقة إن واقع الحروب اليوم يجعلنا نزهد في أي نتائج مرجوة من تلك التشريعات الدولية لحماية البيئة. إلا أن أملنا بالله يظل باقٍ على الدوام، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
عبدالله بن محمد العصيمي
مـاجستـير إدارة البيئة، المملكة العربية السعودية
الـمــراجـــع:
(*) اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى (بالإنجليزية: Convention on the Prohibition of Military or Any Other Hostile Use of Environmental Modification Techniques) أو اختصاراً ENMOD، هي معاهدة دولية غرضها منع استخدام تقنيات تعديل البيئة لأغراض عسكرية أو عدائية، وقد تم إقرار هذه المعاهدة في 10 ديسمبر 1976 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتم فتح باب التوقيعات في 18 مايو 1977 في جنيف، ودخلت حيز التنفيذ في 5 أكتوبر 1978وحتى تاريخ 24 سبتمبر 2013، وقد وقعت 48 دولة على المعاهدة من مجمل 76 دولة منضمة إليها. وتقنيات التغيير في البيئة: هي أي تقنية لإحداث تغيير عن طريق التأثير المتعمد في العمليات الطبيعية في ديناميكية الكرة الأرضية، أو تركيبها أو تشكيلها، بما في ذلك غلافها الصخري، وغلافها المائي، وغلافها الجوي، أو في ديناميكية الفضاء الخارجي، أو تركيبه أو تشكيله.
([1]) (عماد سعد، الحـرب على البيـئة أمثلة من العـراق ولبنــان وفلسطـين، مقال بشبكة أبوظبي البيئية، http://www.abudhabienv.ae/news).
( ([2](البيهقي، السنن الصغير للبيهقي، من رواية يحي بن سعيد، مرسل، الصفحة والرقم 3/387).
([3]) (سعد الأحمري، البيئة الطبيعية، أطروحة لنيل درجة الماجستير بكلية القيادة والأركان للقوات المسلحة، الرياض، 1425هـ، ص41).
([4])(ماري غ. جاكوبسون، التقرير الثاني عن حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، لجنة القانون الدولي بالجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة السابعة والستين. جنيف، أغسطس 2015، ص 49).
([5]) (منشورات الأمم المتحدة، حقوق الانسان، مكتب المفوض السامي، الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 آب / أغسطس 1949 والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة .http://www.ohchr.org/AR/ProfessionalInterest/Pages/ProtocolI.aspx).
([6]) (نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، اُنجزَ في روما في 17 يوليو 1998، بدء النفاذ في 1 يوليو 2002، مجموعة معاهدات الأمم المتحدة، التوديع: الأمين العام للأمم المتحدة، http://www.treaties.un.org).
([7]) (ماري غ. جاكوبسون، التقرير الثاني عن حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، مرجع سابق، ص 100).
([8]) (العمليات والتخطيط المشترك، كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة، الطبعة الأولى، الرياض، 1435هـ، ص 5-2).
([9]) (ماري غ. جاكوبسون، التقرير الثاني عن حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، مرجع سابق، ص 52).
([10]) (عماد سعد، أسلحة أمريكية صديقة للبيئة، مقال بموقع الركن الأخضر، 2/8/2006، http://www.grenc.com).