شبكة بيئة أبوظبي: عبدالله بن محمد العصيميي، مـاجستـير إدارة البيئة، المملكة العربية السعودية 22 مايو 2017
إن آثار الحرب لا تكون محصورةً في العادة بمسرح تلك الحرب أو حتى بالدول التي وقعت الحرب على أرضها، فدائرة مخاطرها قد تتسع لتشمل دول الجوار، وهي ربما تنتهي تلك الحرب بإعلان الخاسر والمنتصر فيتوقف نزيف الدماء، لكن أثارها المستطيرة تبقى لأجيال طويلة بعد انتهاءها.
وإن الأثار البيئية للألغام بعد انتهاء الحروب هي من أشد تلك الآثار خطراً وأطولها زمناً، وتكمن خطورتها في إعاقتها للعديد من مشاريع التنمية كإنشاء المجمعات العمرانية، ومنع التنقيب عن البترول، وتعطيل زراعة مساحات شاسعة من الأراضي، بالإضافة للخسائر المادية المتمثلة في تكاليف إزالتها، والخسائر البشرية التي لا تنتهي من قتل وإعاقة وهي الخسائر التي لا تُقدر بثمن.
وقد شهدت حروب العصر الحديث استخدام كميات كبيرة من أنواع مختلفة من الألغام المضادة للدبابات والألغام المضادة للأفراد والألغام البحرية وقد (بلغت حسب احصائيات الأمم المتحدة أكثر من مائة مليون لغم موزعة في ٦٢ دولة افريقية وآسيوية) ، فقد استُخدمت بكثرة في الحرب الكورية في الخمسينات من القرن الماضي، كما استخدمت في حرب فيتنام في السبعينات، إلا أن الاستخدام الأبرز للألغام كان في (معركة العلمين) الحاسمة 1942م والتي كانت أعنف معارك الحرب العالمية الثانية والتي حددت مصير هذه الحرب، وقد دارت رحاها في الصحراء الغربية لمصر، فقد قامت الجيوش المتحاربة بزراعة عددٍ هائلٍ من حقول الألغام أُطلق عليها فيما بعد (حدائق الشيطان) وذلك في وصفٍ دقيق لاتساع مساحتها وهول خطرها، فقد أوضح مسئول الاتصال بالأمانة التنفيذية لإزالة الألغام بوزارة التعاون الدولي (إن العدد التقريبي للألغام في مصر حسب الإحصاءات الأمريكية 19.5 مليون لغم مضيفاً: اكتشفنا لاحقًا أن تلك الأعداد غير دقيقة، فما يحدث من عمليات لنزع الألغام يُظهر أن العدد أكثر من ذلك) ، وقد أوضحت ندوة أقيمت بمناسبة الإعلان عن اتفاقية مشتركة بين الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والحكومة المصرية لدعم خطة تنمية الساحل الشمالي الغربي وإزالة الألغام (أن عدد الألغام التي تم إزالتها في تلك المنطقة 23 مليون لغم، إلا أن هناك مساحة تقدر بمليون و157 ألف و166 فداناً لا زالت تحتاج للتطهير واكتشاف حجم الأجسام القابلة للانفجار بها) .
إن هذه المشكلة الخطيرة تتجلى لنا واقعاً كئيباً إذا علمنا مساحة مصر الكلية تُقدر بحوالي 1.002.000 كلم2، منها 78990 كلم2 مأهولة للعيش بها بما يعادل 7.8%، إلا أن هناك 22% من مساحة مصر بما يعادل 220319 كلم2، لا يستطيع أي مواطن مصري عبورها أو لمس ذرة تراب منها، لذا فإن الآثار السلبية للألغام في مصر أعاقت العديد من مشاريع التنمية وأهمها (مشروع منخفض القطارة) الذى يدرس إمكانية توليد الكهرباء عن طريق شق مجرى يوصل مياه البحر المتوسط بالمنخفض .
إن مكمن الخطورة في مشكلة الألغام يمكن اختصاره في: (1) عشوائية زراعتها وعدم استعمال الطرق المعروفة المنظمة لزراعتها بواسطة سجل وخرائط حقول الألغام، (2) أو عدم تسليم هذه السجلات والخرائط للدولة المتضررة، (3) ولكن الخطر الأكبر يكمن في الحساسية المفرطة لتلك الألغام نتيجة مرور أكثر من 70 عام على وجودها والتغير المناخي المستمر، (4) وحركة الرمال الدائمة التي تُسهم في طمر هذه الألغام ودفنها في الصحراء.
ولا تقل الألغام البحرية خطورة عن الألغام البرية حيث تؤدي إلى تلويث البيئة البحرية بشكل خطير، وينتج عن انفجارها آثاراً مدمرة للكائنات الحية البحرية وخاصة الاسماك حيث تُحدث هذه الانفجارات تخلخل في مركز الانفجار ثم موجة ضغط حول المركز تؤدي إلى توقف حركة تنفس الأسماك واختناقها لذا يُلاحظ بعد التفجير وجود كميات كبيرة من الأسماك مختلفة الأحجام تطفو على سطح الماء أو تُقذف على السواحل .
أما (العبوات الناسفة بدائية الصنع) Improvised Explosive Device فهي عبارة عن عبوات ناسفة يتم ابتكارها وصناعتها يدوياً وتعديلها بطريقة أو بأخرى للتسبّب بالقتل، أو بإحداث إصابات، أو إتلاف الممتلكات، أو نشر الذعر، ويمكن تفجيرها من قبل الضحية نفسه عن طريق الخطأ، أو بالتحكّم عن بعد، أو بواسطة هجوم انتحاري ، كما يمكن تعديل الذخائر التي لم تنفجر لصنع عبوات ناسفة بدائيةIED ، وقد تم استخدام هذا النوع من العبوات على نطاق واسع في أفغانستان والعراق ضد القوات الأمريكية، ومن مخاطر العبوات الناسفة بدائية الصنع أنها وبصورة عامة تكون أكثر حساسية للاحتكاك، وأقل متانة من الألغام التجارية أو العسكرية. ونظراً لعدم وجود المواد الخام والأدوات المناسبة لصنعها فإن صُنع عبوة ناسفة بدائية لن يشمل معايير السلامة المطلوبة ، وتُسبب هذه العبوات والمفخخات الكثير من الخسائر في صفوف المقاتلين، ولكن العدد الأكبر من الخسائر يُرجح أن يكون من المدنيين وخاصة الأطفال أثناء الحرب كما أنها تستمر بعد الحرب لتكون أشد حساسية وأكثر خطورة على البيئة وساكنيها.
ولا تقل القنابل العمياء خطراً عمّا أسلفنا، فارتطام القذائف والقنابل عند رمايتها بأرض رخوة، أو عدم انفجارها لأسباب فنية، يجعل منها قدراً أعمى ينفجر بعشوائية في أول من يقترب منها أو يحاول تحريكها، ويتراوح معدّل الذخائر التي لا تنفجر ما بين 5% إلى 30% وفق تقارير دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) ويعتمد هذا المعدّل على عوامل مختلفة، ولكن عموماً كلما كانت التربة أكثر نعومة، كلما ارتفع معدل عدم الانفجار، ففي ألمانيا مثلاً (تمّ الكشف عن وجود 100,000 قنبلة لم تنفجر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد يصل وزن القنابل الى 250 كغم في كثير من الأحيان، وبعض القنابل أكبر من ذلك بكثير. فقد استخدمت قنابل وزنها 10 طن لتدمير الجسور والحواجز، واخترقت آلاف القنابل الأرض عميقاً بحيث بقيت مخفية لسنوات) . وتعتبر الذخائر الصغيرة أشد حساسيةً، ويمكنها أن تنفجر عند أقل احتكاك، إلا أن الصواريخ والصواريخ البالستية خاصةً التي لم تنفجر، إذا انفجرت لاحقاً فهي تحمل خطراً مضاعفاً، فبالإضافة إلى قوة انفجارها فإن انفجار خزان الوقود سوف يزيد من قوة الانفجار وخطر انتشاره.
وفي النهاية وبعد أن تضع الحروب أوزارها تقوم الدول عادةً بإعداد خطط وطنية للتحرك في كل المستويات من أجل التأكد من خلو بيئة مسرح الحرب من جميع أشكال الخطر حفظاً للأرواح وحمايةً للممتلكات وأهم تلك البرامج التي يتم إدراجها في هذه الخطط هي:
1. القيام بمسح شامل لمنطقة العمليات بحثاً عن الألغام، والعبوات الناسفة بدائية الصنع IED والذخائر التي لم تنفجر ليتم إزالتها وتطهير منطقة العمليات من خطرها قبل القيام بأي تحرك في المنطقة.
2. جمع وإزالة كل مخلفات الحرب بطرق علمية سليمة وتحت الإشراف المباشر للقوات المسلحة بمساندة الهيئات البيئية الحكومية والأهلية لتجنب إصابة المواطنين بخطر الانفجار وعدم ترك القيام بهذه المهمة للأهالي.
3. إعداد نشرات توعوية للأهالي العائدين لمناطق الحرب توضح كيفية التعرف على الألغام والمواد الخطرة وتبين لهم ضرورة البعد عنها وإبلاغ المسؤولين عن مواقعها وضرورة التعاون مع الفِرق المتخصصة.
4. المشاركة الفعالة لوسائل الإعلام لإعطاء صورة واضحة عن الواقع لنشر التوعية في هذا المجال، ودحضاً للتهويل والشائعات وذلك عن طريق إجابة الصحف، ونشر المقالات البيئية، واللقاءات التلفزيونية لبيان الحقائق والاجراءات الواجب اتباعها من قبل الأهالي والساكنين بمناطق الحرب، هؤلاء الأهالي هم من يذوقون مرارة الحرب عندما تبدأ، بينما يتجرع أبناؤهم وأحفادهم تلك المرارة بعد انتهائها أعواماً وأعواماً.
عبدالله بن محمد العصيمي
مـاجستـير إدارة البيئة، المملكة العربية السعودية
الـمــراجـــع:
1- (العمید. إبراھیم السوقي صفوت، حدائق الشيطان والتدمير البيئي، مجلة الحرس الوطني، السعودية، ملحق البيئة، شعبان ١٤١٥ ھ، ص 77).
2- (جلا البدري، 22 % من مساحة مصر مُلغمة.. الأرض المحرمة على أهلها، تحقيق صحفي، موقع البديل، 9 ديسمبر2014م،( http://elbadil.com
3- (جلال البدري، مرجع سابق)
4- (د. مواهب أبو العزم الرئيس التنفيذي لجهاز شئون البيئة، التوصيف البيئي لمحافظة مرسى مطروح، وزارة الدولة لشؤون البيئة 2008 ص 19).
5- (د. فھمي حسن، احتمال التلوث البیئي، ندوة البحر الأحمر، معھد الدراسات الدبلوماسية، الریاض، 4/5/1985م ص138).
6- (توماس إنكه، الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب والعبوات الناسفة بدائية الصنع دليل السلامة، دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام نيويورك، الطبعة الثالثة، 2016، ص 33).
7- (توماس إنكه، مرجع سابق، ص 25).
8- (المرجع السابق، ص30).