«اللغة العربية».. المكوّن الجوهري للهوية

مبادرات إماراتية رائدة لدعم لغة الضاد
جائزة “محمد بن راشد للغة العربية” من المبادرات الملهمة في تقديرها للجهود المخلصة افراداً ومؤسسات
تأسيس مركز ابوظبي للغة العربية لوضع الاستراتيجيات العامة للنهوض بها علمياً وتعليمياً وثقافياً
“المعجم التاريخي للغة العربية” مشروع لغوي وحضاري يؤرخ لمفردات لغة الضاد وتحولاتها
“مجمع اللغة العربية” بالشارقة يقوم بوظيفة ثقافية مهمة في الحفاظ على سلامة اللغة العربية

يمكن اعتبار الثقافة بمفهومها الإبداعي والمعرفي والاجتماعي الواسع هي الحاضنة الأساس للغة، وهي المتحكمة في بنيتها الصوتية والحروفية، كما تعد الثقافة المحرّك الأهمّ والموجّه الأكبر لتأثير اللغة وفاعليتها وتطوّرها. وينظر المفكر «نعوم تشومسكي» إلى اللغة كمَلَكة فطرية مُرمّزة إلى حدٍ كبير وراثيًا، في حين أن النظريات الوظيفية تعتبرها نظامًا ثقافيًا يكتسبه الإنسان من خلال التفاعل الاجتماعي.
بينما يرى الفيلسوف «موريس أولندر» أن اللغة هي ذاكرة الشعوب والشاهد الصريح على استمرار هويتها، وتؤكد هذه الإشارة على التواجد التاريخي العميق للغة في الحضارة الإنسانية، باعتبارها النقلة المحورية والاستثنائية الكبرى للوجود البشري على كوكب الأرض، فهي التي أطلقت شرارة «التجريد» لدى الإنسان العاقل، ليقطع بذلك الفصل المظلم للإنسان البدائي المعتمد تماماً على «التشخيص»، فكانت «اللغة» بذلك هي وعاء التجريد بامتياز، وأسهمت بقوة في تطور المجتمعات البشرية ووصولها لحقل مشترك من المعارف والمعاني والدلائل والإشارات ذات التأثير الحيوي والديناميكي لتحقيق ابتكارات واختراعات ملموسة ومتدرّجة في تطورها وانتقالها من النمط «البسيط» إلى الشكل «المّركّب»، ومن المحتوى «السهل» إلى البناء «المعقّد» المستند على المنطق والفلسفة والرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب وعلم الفلك والجغرافيا وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية المنبثقة من الفضاء الدلالي الشاسع والمتنوع والمتنامي للّغة.
في هذا السياق أولت دولة الإمارات اهتماماً كبيراً باللغة العربية المتّصلة بالثقافتين العربية والإسلامية، ذلك أنها لغة حيّة، وماثلة، وقاومت منذ قرون كل الظروف الشرسة والمحاولات المريبة لتهميشها والتقليل من شأنها وطمسها، تجاوزت اللغة العربية ذات العوامل المؤدية لانقراض العديد من اللغات القديمة، وظلت قوية وشامخة أمام رياح التغيير الهائجة والعنيفة.
لقد أثمرت جهود دولة الإمارات في الحفاظ على اللغة العربية وتعزيز دورها ومكانتها في العصر الحديث عن العديد من الظواهر المبهجة والمبشرة، ليس على الصعيد المحلي فقط بل على المستويين الإقليمي والعالمي، مستعيدة بذلك ماضي اللغة العربية الزاخر بالفتوحات العلمية والفلسفية والأدبية، لأنها لغة مرنة باستطاعتها أن تحتوي جميع أنماط الفكر الإنساني وتستوعب كل قضايا المعرفة الكونية من علوم رياضية وطبيعية تجريبية وتطبيقية، كما يشير بذلك المفكر عبدالله كنّون، والذي يضيف أن العربية كانت اللغة الأولى في العالم، وكانت الأمم والشعوب المعاصرة لها تقتبس منها وتستنير بها وتعتبر أدبها هو الأدب وتفكيرها هو التفكير.
ويلخّص صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد، حاكم الشارقة، أهمية اللغة العربية في حياتنا المعاصرة من خلال عبارة شهيرة له يقول فيها سموه: «اللغة العربية لها من الخصائص والمزايا ما يرفعها ويسمو بها في دنيا اللغات، وهي من أطول اللغات العالميّة عمرًا، وأوسعها مُعجماً، وأروعها بياناً»
تنطق هذه المقولة بأصالة التوجّه الثقافي في الإمارات، والتي تجعل من اللغة العربية المنشأ والمنبع للحراك المجتمعي والثراء الإبداعي في المكان، حيث رأت القيادة الرشيدة في الدولة أن اللغة هي المكوّن الجوهري للهوية، وبدونها يفقد الوعي الجمعي رصيده من التماسك والالتحام والحضور والتأثير، وبالتالي يتلاشى دورها الحضاري في العالم، ويبهت ما راكمته اللغة العربية من وهج وجمال ومشاركة في نهضة الشعوب واستدامة منجزاتها.

مبادرات خلّاقة
قدمت دولة الإمارات العديد من المبادرات الخلّاقة والإسهامات النوعية للحفاظ على اللغة العربية وجعلها وسيلة تواصل رئيسة ومهمة رغم التحديات الكبيرة التي فرضتها التقنيات الحديثة والتحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتسارعة. ومن آخر هذه المبادرات إطلاق المجلدات الـ17 الأولى من «المعجم التاريخي للغة العربية»، وهو المشروع اللغوي والحضاري الكبير الذي يرعاه صاحب السمو حاكم الشارقة، ويؤرّخ للمرة الأولى لمفردات لغة الضاد وتحولات استخدامها عبر 17 قرناً ماضية.
ويختص المعجم بتوضيح عدد من المعلومات الرئيسة، مثل: تاريخ الألفاظ العربية، حيث يبحث عن تاريخ الكلمة من حيث جذرها، ويبحث عن جميع الألفاظ المشتقّة منها وتقلّباتها الصوتيّة، ويقوم بتتبّع تاريخ الكلمة الواحدة ورصد المستعمل الأوّل لها منذ الجاهليّة إلى العصر الحديث مركّزا على الاستعمال الحي للغة، أي أنّه يختلف عن سائر المعاجم السابقة بأنّه يستشهد بالنصوص الحيّة قرآناً وحديثًا وشعرًا وخطبًا ورسائل وغيرها.
ويتيح الموقع الرسمي للمعجم، تصفُّح المجلدات المنجزة والبحث عن الجذور والمداخل، بالإضافة إلى إمكانية تصفُّح المدونة وما تحويه من كتب وعناوين، كما تقدّم المجلدات تاريخ المفردات في السياق الذي وردت فيه في عصر ما قبل الإسلام، على ألسنة الشعراء الجاهليين، مرورًا بالعصر الإسلامي، وتتبع اللّفظ في النص القرآني، والروايات التاريخية، مرورًا بالشعر الأموي، فالعباسي إلى العصر الحديث، وترصد حركة الألفاظ.
ويكشف المعجم تطوّر المصطلحات عبر العصور، ويرصدُ تاريخ دخول الكلمات الجديدة المستحدثة في اللغة المستعملة، والكلمات التي اندثرت وزالت من قاموس الاستعمال مع ذكر الأسباب المؤثّرة في ذلك.
إلى جانب ذلك، يعرض المعجم تاريخ نشأة العلوم والفنون، إذ يبحث في علوم اللسان العربي عن جميع العلوم التي نشأت تحت ظل البحوث اللغوية قديمًا وحديثًا من نحوٍ وصرفٍ وفقه لغة ولسانيات وصوتيات وعلوم البلاغة والعروض وغيرها، ويتوقف عند المصطلحات التي ولدت ونشأت في رحاب هذه العلوم.
ومن المشاريع الأخرى المهمة التي أطلقتها دولة الإمارات للإبقاء على مكتسبات اللغة العربية، مشروع: «ميثاق اللغة العربية» الذي أعلن عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي «رعاه الله»، حيث جاء ليكون مرجعاً لجميع السياسات والقوانين المتعلقة بحماية اللغة العربية، وتعزيز استخدامها في الحياة العامة، ومن أهم مخرجاته إنشاء «المجلس الاستشاري للغة العربية» الذي أوكلت إليه مهمة رعاية ودعم الجهود الرّامية لتطبيق مبادئ وتوصيات «ميثاق اللغة العربية».
كما تم تأسيس مركز أبوظبي للغة العربية لوضع الاستراتيجيات العامة لتطويرها والنهوض بها علميًا وتعليميًا وثقافيًا وإبداعيًا، وتعزيز التواصل الحضاري وإتقان اللغة العربية على المستويين المحلي والدولي، ودعم المواهب العربية في مجالات الكتابة والترجمة والنشر والبحث العلمي وصناعة المحتوى المرئي والمسموع، ويعمل المركز لتحقيق هذه الأهداف عبر برامج متخصصة وكوادر بشرية فذة، وشراكات مع كُبرى المؤسسات الثقافية والأكاديمية والتقنية حول العالم انطلاقًا من مقر المركز في العاصمة الإماراتية أبوظبي.
أما جائزة «محمد بن راشد للغة العربية» فتعد من المبادرات الملهمة في تقديرها لجهود العاملين في ميدان اللّغة العربيّة أفراداً ومؤسّسات، وتندرج في سياق المبادرات التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم للنّهوض باللّغة العربيّة ونشرها واستخدامها في الحياة العامة، وتسهيل تعلّمها وتعليمها، إضافة إلى تعزيز مكانة اللّغة العربيّة وتشجيع العاملين على نهضتها.
ويعدّ مشروع «تحدي القراءة العربي» الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أكبر حافز على مستوى الوطن العربي لتشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي عبر التزام أكثر من مليون طالب بالمشاركة بقراءة 50 مليون كتاب خلال كل عام دراسي.
وتستهدف مبادرة «بالعربي» جميع فئات المجتمع الناطقة باللغة العربية في الإمارات وحول العالم، لتعزيز الهوية العربية لدى الشباب والشعور بالانتماء، عن طريق التشجيع على استخدام اللغة العربية فقط في جميع وسائل التواصل الاجتماعي «تويتر وفيسبوك وأنستجرام» طوال اليوم العالمي للغة العربية
وجاءت مبادرة «لغتي» برعاية حاكم الشارقة، لتعليم اللغة العربية في مدارس الشارقة، استكمالاً لمبادرة دعم التعليم باللغة العربية بوسائل ذكية يستفيد منها طلبة الإمارة، ونظراً لأهمية الدور الاستراتيجي للغة العربية في ترسيخ منظومة تعليمٍ متطور، تؤهل الطالب لمواكبة العصر والتفاعل مع تحدياته العلمية والتقنية، وتكرس اعتزازه بهويته العربية.
وتعد جمعية حماية اللغة العربية في الشّارقة، التي تأسست عام 1998، حلقة الاتصال بين جميع المؤسسات والهيئات وملتقى الأفراد، وتقدم مجموعة من الخدمات بهدف حماية اللغة العربية، مثل تبنيها مسابقة «المخزون اللغوي»، وهي مخصصة لحفظ الشعر وموجهة إلى طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية. كما أطلقت برنامج «لسان الفطرة» بعنوان «أحب لغتي العربية»، وهو عبارة عن كتابٍ موجه لطلاب رياض الأطفال لربطهم بلغتهم الأم منذ الصغر، علاوة على تنظيم الندوات والمؤتمرات الخاصة باللغة العربية، ودعم الأنشطة التي تعزز الهوية الوطنية، وصولاً إلى تعليم مهارات اللغة والأدب للناطقين بالعربية.
ويقوم «مجمع اللغة العربية» بالشارقة، بوظيفة ثقافية مهمة في الحفاظ على سلامة اللغة العربية، وجعلها مواكبة لمتطلبات العلوم والآداب والفنون الإسلامية، وملائمة لمدركات الحياة الإنسانية المتجددة، وتشجيع التعريب والتأليف والترجمة والنشر، وعمل الدراسات العلمية للهجات العربية قديمها وحديثها، والنهوض باللغة العربية لتكون دائماً ضمن اللغات الأساسية على مستوى العالم.

المصدر، جريدة الاتحاد، إبراهيم الملا، 16 ديسمبر 2021

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

الكويت.. افتتاح لفعاليات الدورة 19 لمؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية

ممثل أمير الكويت : جائزة “البابطين” تعكس شموخ الأدب العربي وإشراقه المتجدد في سماء الإبداع …