عبد الرحيم إبراهيم طيب الذكر، رجل يمثل كل السودان وقتذاك

شبكة بيئة ابوظبي، دبي، الإمارات العربية المتحدة، 16 يوليو 2023

كان طويلاً (أخضر اللون كما يصف السودانيين أصحاب البشرة المايلة للسواد) فارها لا هو بالسمين أو النحيف، شعره سبيبي يقوم بتنظيمه بالفرشاة كل صباح مع قليل من الماء قبل أن يذهب للعمل. يلبس البنطلون الأسود المصنوع من الصوف والقميص الأبيض الناصع ويدخل القميص داخل البنطلون، كعادة الموظفين آنذاك. كان لبيساً للحذاء الإنجليزي الصنع المقفول، ويهتم بشراء ملابسه من أفضل الماركات من متاجر شارع الجمهورية، مكان تسوق الإنجليز وقتذاك. كان يهتم بهندامه كاهتمامه بعمله وجيرانه.

وأضاف سعادة الدكتور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم في حوار أجرته شبكة بيئة ابوظبي معه في مكان اقامته بدبي، عن المرحوم والده عبد الرحيم بالقول ” كان يكتب الرقم ثلاثة بثلاثة سنون، كما ذكر لي الخال منصور محجوب، أول سوداني نال شهادة المراجعة القانونية البريطانية، والمفتش بوزارة المالية آنذاك ووزير الخزانة في أول تشكيلة لثورة مايو. هذه الكتابة للرقم ثلاثة أعطته الأفضلية في نتيجة معاينة الدخول للعمل بوزارة المالية صرافاً. وأذكر أنه عندما يخرج في الصباح في وقت محدداً يأخذنا معه للمدارس وكنت أسمع يومياً سلامه لكل أهل الشارع بأسمائهم وفي بعض الأحيان يسأل عن مرضاهم كيف أصبحوا. كنت أستغرب من هذا الأمر وهذه الحنية الفائقة، حتى كنت أخالهم أهلي. لقد كان قدوة في المحبة لجيرانه وأهله، وعشيرته، وإخوانه وأخواته. وكان محبا للعمل أينما وجده. كما كان حسن الأخلاق والمعاملة واللطف بالجيران يصاحبهم يوميا ويقدم لهم ما يقدمه لأولاده بلا من وأذي. ومنذ أن كان في سن الرشد عرف عنه التقوى والصلاح والصلاة في المسجد”.

وأشار الدكتور بدر الدين هكذا قال عنه الأعمام منصور محجوب وحسن رمضان برًه، أصدقاء عمره وكاتمي أسراره رحمهم الله وأحسن إليهم. لا يعرف الجهوية والمناطقية والقبلية حيث كان حسن رمضان أعز أصدقائه الذي لا يفارقه يومياً بعد العمل من أبناء الفاشر الدارفورية ومنصور محجوب قريبه والأقرب لقلبه من الأهل، ربما لأنهم يعملون في مجال واحد، ولا يفرق بين صديقيه، بل كان يحب البعيد أكثر من القريب. بدليل أنه عندما كان في أيامه الأخيرة دعا صديقه حسن رمضان، كما حدثونا، بالمستشفى وتحدثا لساعات طوال ولا يدرِ أحد عن تفاصيل ذلك الحديث، ولكن كان الأمر يخص توصية برعايتنا بعد وفاته لصديق عمره، وقد كان. ولم يقصر هذا الرجل في رعايتنا وكأننا أبنائه يهتم بنا ويوجهنا نفس الوجهة. حسن رمضان كان يعمل رئيساً للعمال في وأبورات بحري وعرف عنه الزهد والتقوى وحب الأهل.

كان اقتصادياً ومحاسباً ضليعاً وأميناً وكان يستقطع من مرتبة للاشتراك في أسهم البنك التجاري وشركة الأسمنت بربك وغيرها من المؤسسات المالية، ولكن كلها ضاعت ولم نستفد منها لضعف قيمة الاشهم اليوم والسطو من قبل محبي المال وتسجيلها بأسمائهم، هداهم الله. كان يتنقل في عمله بين مدن مدني والقضارف، وواو والخرطوم وسنجة. الأخيرة رأيت فيها لأول مرة الشرطة الذي يلبس برنيطة وعليها ريشه وكنت أهابه وأهرب منه كلما أراه باعتباره سجًان يقبض الناس، كما رأيت فيها أول مره مبنى المستشفى ذي الطابقين بتعجب عندما أخذوني إليه بعد أن شربت من الجاز في قارورة البيبسي. انها شقاوة الطفولة.

وأكد دكتور بدر الدين أن الوالد رحمه الله كان يتعالج بأسمرا من داء القلب اللعين حيث وجود الأطباء الإيطاليين المتخصصين. كلما ذكر اسمه تحدث عنه أهله وأصدقاءه من أطباء أخصائيين وعلية القوم بالخرطوم بعد وفاته بنفس المثل، والقيم، والمبادئ، والأخلاق. كان يجمع بين ثلاثة أعمال محاسب بالمجالس البلدية والمالية وعامل في تحنيط الطيور في متحف التاريخ الطبيعي بالخرطوم وهاوي في تجليد ما بسمي بكراسي الخيزران بالمنزل. كان صامتا لا يقول إلا ما يرضي الله ولم أسمع عنه فاحش القول. ولا يغضب إلا عندما يرى الباطل. لا يتحرج من أن يعمل فيما يريده ويهواه، عفيفا يأكل من عرق جبينه ويقدم أغلى ما عنده للناس ويساوي بين الأهل وأبنائه في المال ويحبهم ولا يذكر أخيه أو أخته (حافة) بل يسبقها بأختي وأخوي كذا. وكذلك هم يفعلون.

من جانب آخر أشار بدر الدين في حديث سابق له مع صديق عمره حسن رمضان أنه كان يقسم مرتبة ويحدد مبلغا شهرياً حسب قسمة الحلال الشرعية لابنه الأكبر من زوجته الأولى المتوفاة رحمها الله. وفوق كل ذلك يأبى أخذ المال الحرام. وأذكر أنني عندما كنت طفلا جالسا بمكتبه حيث يعمل صرافاً وأخذت ما كان يسمي وقتها بالتعريفة (عمله معدنية سودانية) للعب بها أحمر وجهه وقدم لي جلدة لم أنساها حتى تاريخ اليوم، ولم أدر معناها آنذاك، ولكن عرفت ما يعني لاحقا. وذات يوم أحضرت له جذلانا وجدته بالقرب من ملعب الكرة قائلا له بزهو وأدب أنني وجدته بالقرب من مكب الزبالة التي تقع بعد عارضة الملعب مباشرة وأنا ألعب حارساً للمرمى. فطلب من أخي الكبير الذهاب معي للتأكد من هذا الأمر ثم أمره أيضا بقطع شجرة النيم في منتصف المنزل وجلدني بأربعة منها حتى تكسرت في قدماي وكان يقول لي (لا تأخذ أي شيء ما حقك). ومنذ ذلك اليوم أتحاشى أكل الحرام وإن وجدت مبالغ مالية في الشارع أتجنبها ولا أمد يدي إليها واتذكر تلك الواقعة والجلد الأليم. والغريب في الأمر أنني دائما عندما أحضر لمحطة الغالي أذهب أعاين مكان هذه الزبالة التي تحولت لمباني اليوم بعد أن زحف عليها البنيان العمراني وغابات الاسمنت. فقد كان ذلك درساً حدد مسار حياتي فيما بعد.

لم يعرف عنه ممارسة السياسة أو الانتماء الواضح لأي حزب، ولكنني كنت ألاحظ أنه يفتح الراديو عاليا عندما تذاع نتيجة الفوز في الدوائر الانتخابية. لم يترك لنا مالاً، ولكنه ترك لنا بيتا من الطين كنا نسكنه بعد وفاته وتهدم، كما ترك لنا إرثاً أخلاقياً وعملياً لا زلنا نحاول الاقتداء به.
توفي راضياً عن عمله وحياته ومغفوراً لذنوبه بإذن الله في 11 مايو 1966 وعمري نحو العشر سنوات، له الرحمة والمغفرة.

تذكرته صباح اليوم (كعادتي عند كل صلاة) رحمه الله، في هذا الزمن الأغبر الذي قلت فيه المروءة والأخلاق وضعف فيه حب الوطن والعمل، ولتقديم لمحة لجيل اليوم عن ما كان فيه جيل الأمس، علنا نأخذ ولو باليسير مما كان يتصفون به.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

التمويل الأصغر المدعوم والأديان

شبكة بيئة ابوظبي، بقلم بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم ابراهيم، كبير مستشاري برنامج الخليج العربي …