بقلم عبدالله النعيمي، المصدر، موقع الطاقة، 2023-09-270
يعدّ خفض البصمة الكربونية من قطاع البناء خطوة مهمة، إذ إنه أحد العوامل الرئيسة للتدهور البيئي في العالم، وهو على مسار خطير لزيادة الانبعاثات الكربونية.
ويتحمل هذا القطاع مسؤولية ما يقارب 23% من التلوث الجوي، و40% من تلوث مياه الشرب، و50% من جميع النفايات على مستوى العالم.
يتضح من البيانات المعدّة من قبل وكالة الطاقة الدولية أن صناعة البناء والتعمير مسؤولة عن 40% من الانبعاثات الكربونية أو البصمة الكربونية، بما يعادل 14.6 ميغاطن من غاز ثاني أكسيد الكربون المكافئ.
وتقسم هذه النسبة ما بين تشغيل المباني بعد بنائها (27%) وخلال عمليات البناء والتعمير (6%)، بالإضافة إلى الأعمال الأخرى المرتبطة بالبناء (7%).
كما تتحمل بيئة المباني 30% من إجمالي استهلاك الطاقة النهائي عالميًا، و27% من انبعاثات قطاع الطاقة، وذلك وفقًا لوكالة الطاقة الدولية .
آثار الضرر البيئي في الأرض
بدأت آثار هذا الضرر البيئي تظهر على الأرض وتؤثّر بالتنمية البشرية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم، من ذوبان في قمم الجليد والأنهار الجليدية في المناطق القطبية، إلى حدوث حالات جوية أكثر تكرارًا وشدة في مناطق متعددة وبظواهر طبيعية مختلفة.
إن حالات الاختلال التي نراها اليوم من إعصار “هيلاري” الذي ضرب جنوب أميركا بنهاية شهر أغسطس/آب الماضي، إلى العواصف التي نالت منها مناطق مختلفة من المغرب العربي ومنطقة الشرق الأوسط، تمثّل بداية هذا التغير في مناخ هذه المناطق.
كما تزيد هذه الاختلالات من مخاطر حدوث الحرائق والفيضانات والجفاف في بعض الأراضي، بالإضافة إلى ارتفاع منسوب سطح البحر، والعواصف القوية في المناطق الساحلية.
ومع نمو الوعي وتزايد القلق لدى سكان هذا الكوكب، تتخذ الحكومات إجراءات وضع أهداف بيئية لمنع ارتفاع درجة حرارة الأرض بشكل كارثي والحدّ من التدمير البيئي.
ومن القطاعات التي لا بد من العناية بها، وتحديد قدرتها على الإسهام في التأثير بارتفاع درجة حرارة الكوكب، يأتي قطاع البناء.
ويسهم قطاع البناء بشكل كبير في احتباس حرارة الأرض عبر جميع مراحله، من بناء وتشغيل، ومع هذا التأثير المتنامي للاحتباس الحراري يتزايد عدد سكان هذا الكوكب، ويزيد الطلب على البناء والتعمير.
وهذا الأمر يتطلب إعادة التفكير بشكل جادّ في عناصر ومكونات قطاع البناء، والبحث بشكل مستمر عن البدائل الصديقة للبيئة، وكيفية الحدّ من الزيادة في المنشآت التي تتطلب المزيد من المواد الإنشائية والتكميلية في البناء، وكيفية تفاعلها مع البشر وتأثيرها في الكوكب.
وضمن الجهود المبذولة للحدّ من تأثير قطاع البناء، يمكننا التطرق إلى 5 طرق يمكنها الإسهام في رفع الضرر، وكذلك الحدّ من تزايد الانبعاثات الكربونية، وهي:
أولًا: تجنب البناء
حثّت وكالة الطاقة الدولية على تجديد 20% من جميع المباني الموجودة بحلول عام 2030، وتأتي هذه الدعوة لتحقيق أهداف المناخ في العالم.
وقالت، إنه يجب أن يكون هناك تركيز رئيس على جهود إزالة أو خفض البصمة الكربونية من قطاع البناء.
كما وجّهت الوكالة إلى تجديد سنوي يزيد عن 2% المباني القديمة حتى عام 2030 وما بعده.
ويأتي هذا التجديد لأغراض رفع كفاءة المباني القديمة التي يُستعمَل فيها الكثير من مواد البناء والقليل من العزل الحراري.
لذا، فإن الدور الذي يؤديه تجديد وتحديث المباني القائمة سينعكس إيجابًا على التغير المناخي وتأثيراته.
ثانيًا: التخطيط البيئي بعيد المدى
إن المطالبة بعدم البناء والاكتفاء بتجديد وتحديث المباني القائمة، لا يمكن أن يكون منطقيًا ما لم يُنظَر إلى البناء الجديد وضرورات التنمية الحضرية بعيدة المدى.
ضمن هذه ضرورات لا بد من معالجة التأثيرات البيئية، من خلال وظيفة المباني وتأثيرها في المجتمع وطرق التقليل منها.
إن جعل المباني صديقة للبيئة وقريبة من مستعمِليها يبدأ بالتخطيط وصناعة البيئة المبنية الخضراء، التي تتوفر فيها متطلبات التنمية، ويعزز من خلال عناصرها الحدّ من التلوث واستعمالات المواد.
ويشتمل هذا التفكير البيئي على فوائد طويلة الأجل، واستعمال محدود من الأراضي وزيادة في المساحات الخضراء والزرقاء، مثل الحدائق والمسطحات المائية.
ويمكن لهذه المساحات أن تسهم في تحسين جودة الهواء، وحماية بعض الموارد الطبيعية، وتعزيز الصحة العامة، والتركيز على رفاهية الناس.
علاوة على ذلك، يصبح لتطبيق معايير الحوكمة البيئة الاجتماعية (ESG) دور مهم وقدرة عالية تمكّن قطاع البناء من النمو دون التأثير في البيئة الطبيعية، وتجعل الاستدامة ممكنة.
ثالثًا: استعمال العناصر المحايدة والطاقة المتجددة
التركيز على البيئة الطبيعية في تصميم المباني يعدّ أمرًا مهمًا، ويسهم بشكل ملحوظ في البصمة الكربونية وجعل المباني أكثر فعالية، وربما أقلّ تكلفةً.
هذا التركيز يبدأ باختيار الموقع واتجاهات البناء وارتفاعاتها، والمسافات اللازمة ما بين الأبنية وكيفية تصميمها.
ويمكن أن تشكّل الطاقة الجديدة وعناصرها المتجددة جزءًا فعالًا في توفير الاستهلاك المطلوب من الكهرباء، وهي أمر مهم في كفاءة المباني، من حيث البصمة الكربونية.
وتعتمد تكنولوجيا البناء اليوم على كفاءة المباني، من حيث حياديتها أو سلبيتها الكربونية.
وهناك معايير تُصَنَّف المباني من خلالها، من حيث استعمالاتها للتبريد والتكييف والتدفئة.
ومع إدخال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لهذا التصنيف، أصبح من السهل خلق صناعات قادرة على استهلاك طاقة أقلّ من 20% مما كانت عليه، وخفض البصمة الكربونية للمباني والخدمات المرافقة بنسبة كبيرة.
ومع تطوّر التكنولوجيا المعنية بالطاقة وزيادة الوعي والعمل على إيجاد عناصر إنشائية صديقة للبيئة، ستتمكن هذه الصناعة من خفض إسهامها في البصمة الكربونية بشكل أكبر.
ويشير الرسم البياني التالي، من إعداد منصة الطاقة المتخصصة، إلى معدلات الانبعاثات السنوية لقطاع البناء والتعمير سنويًا:
البصمة الكربونية لقطاع البناء
رابعًا: تقليل العناصر الأسمنتية في المباني
تمثّل مادة الأسمنت أكثر العناصر استعمالًا في المباني، وتعدّ الأكثر شيوعًا في جميع أنواع المباني، وتسهم بما يقارب 8% من الانبعاثات الكربونية.
ومن المؤسف حقًا أن الأسمنت بقدر ما يشكّل تحديًا بإسهامه في رفع البصمة الكربونية، التي تتجاوز 2.8 مليار طن سنويًا، هو ثاني مادة استهلاكية على مستوى العالم بعد الماء، ويبقى الطلب عليه في تزايد مستمر.
لا بد من الإشارة هنا الى أن التخلص من مادة الأسمنت صعب، إن لم يكن مستحيلًا في هذه المرحلة، وأن البديل المتوفر اليوم هو خفض نسبة الأسمنت في عمليات البناء، وإدخال مواد معاد تدويرها ضمن هذه العمليات.
وبمرور الوقت، فإن بدائل هذه المادة التي اخترعها الإنسان وطوّعها، كي تمثّل عنصرًا أساسيًا في البناء والتعمير، ستكون متوفرة، ويمكن الاعتماد عليها.
خامسًا: اختيار مواد أكثر استدامة
على الرغم من أن الأسمنت يعدّ المادة المشتركة في معظم المباني، ولا بد من استبداله لتقليل البصمة الكربونية الناتجة من البناء والتعمير، تتوفر اليوم البدائل المناسبة لمعظم عناصر البناء.
وبعض البدائل تتطلب مزيدًا من الدراسات والتجارب العملية والدعم العلمي، لتصبح بديلًا مستدامًا، ولا تسهم بالسلب في الاحتباس الحراري.
ومن بين هذه البدائل يأتي الهمبريت، الذي يُصنع من نباتات القنب، بصفته مادة أساسية مع خليط آخر من الجير، و يمثّل هذا المخلوط مادة بناء خفيفة وقابلة للتنفس، وتخفض البصمة الكربونية، ولها خصائص عزل مميزة.
دور مهم للمؤسسات البحثية
تؤثّر البدائل إيجابًا في البصمة الكربونية، وتقلل من دور مواد البناء والتعمير في الاحتباس الحراري، وتلوث البيئة.
ولكن يبقى دور المؤسسات العلمية والبحثية هامشيًا، إن لم تتبعه لوائح وقوانين تسنّها الحكومات لإلزام صناعة البناء والتعمير باستعمال البدائل المتاحة، والسعي في تشجيع استعمالاتها، وتطوير مكامن وجودها، بحيث تكون قادرة على المنافسة والتطوّر.
ومع اقتراب قمة المناخ كوب 28 في الإمارات، وإشارة التقارير الدولية إلى ارتفاعات خطيرة في درجة حرارة الأرض تنذر بالعديد من الكوارث، فإن اعتماد أهداف طموحة لتحقيق بناء مستدام أصبح أكثر إلحاحًا، وحان وقت إعادة النظر في الاتفاقات الإطارية، وهو ما أصبح أمرًا مشروعًا.