العالم بحاجة إلى “محكمة مناخ” فمن يحاسب الأقوياء؟

في حين لم يفِ عدد من الدول بالتزاماته المناخية يمكن لسيادة القانون أن تساعد في ضمان حياة عادلة ومستدامة للجميع

المصدر، إنجي مجدي، موقع، انديبنديت عربية، السبت 8 أبريل 2023 18:42

رغم الجهود العالمية إزاء قضايا المناخ قاوم أصحاب المصالح مساعي توجيه الأنشطة البشرية نحو مسار أقل تدميراً (أ ف ب)

في 30 مارس (آذار) الماضي، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع قراراً تاريخياً يتعين بموجبه على محكمة العدل الدولية إبداء رأيها حول واجبات الدول في مجال مكافحة تغير المناخ أو ظاهرة الاحتباس الحراري التي تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة، ما يؤدي إلى تفاقم الظواهر المناخية مثل الأعاصير والفيضانات وموجات الجفاف، فضلاً عن ارتفاع مستوى سطح البحر مما يهدد بغرق عديد من المدن الساحلية.

على مدار العقود الماضية، كثف القادة حول العالم جهودهم لمواجهة احترار المناخ، فتم وضع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ التي وقعها قادة العالم في “قمة الأرض” عام 1992، لتأسيس هيكل قانوني عريض للتعاون العالمي في شأن مكافحته، ثم جاء توقيع “بروتوكول كيوتو” عام 1997، الذي تطلب إجراءات لتخفيف الانبعاثات من عدد محدود من البلدان الصناعية المسؤولة عن الجزء الأكبر منها في العالم، في ما يعتبر “اتفاق باريس” الذي تم توقيعه عام 2015 خطوة أكثر تقدماً من “اتفاق كوبنهاغن” لعام 2009، الذي وضع من مجموعة صغيرة من الدول، مما ترك معظم البلدان على الهامش.

وتستهدف “اتفاقية باريس” بشكل أساسي إبقاء ارتفاع درجة الحرارة العالمية أقل بكثير من درجتين، ومتابعة أفضل الجهود الدولية للحد من الزيادة إلى 1.5 درجة مئوية، وهو ما يحتاج إلى خطط وطنية واسعة تستلزم إنفاق المليارات على البنية التحتية والصناعات وحتى تغيير العادات اليومية للمجتمعات.

وتنص الاتفاقية الإطارية و”اتفاق باريس” على أن الدول المتقدمة ستوفر الدعم المالي وغيره، إضافة إلى أشكال المساعدة الإنمائية الأخرى للدول النامية من خلال ثلاثة مبادئ، هي المبدأ الوقائي، ومبدأ الحق في التنمية، ومبدأ الاشتراك في المسؤولية المتباينة وفقاً لقدرات كل بلد.

فمن المفارقات في ما يتعلق بقضية التغير المناخي أن الدول الأقل تسبباً في الظاهرة هي الأكثر تأثراً بعواقبها، وينطبق ذلك بشكل رئيس على دول الشرق الأوسط والنامية بشكل عام، إذ تتصل الانبعاثات الضارة المسببة للظاهرة بالنشاط الصناعي للدول الصناعية الكبرى، كما أن الظاهرة هي نتاج ممارسات للدول التي حققت تنمية بالفعل على مدار عقود من الزمن.

محاسبة الأقوياء
على رغم تلك الجهود العالمية المتواصلة التي شملت تأسيس مؤتمر سنوي رفيع المستوى لمناقشة قضايا المناخ، قاوم عديد ممن في السلطة وأصحاب المصلحة الجهود المبذولة لتوجيه التقنيات والأنشطة البشرية إلى مسار أقل تدميراً وأكثر استدامة، وربما ضاعفوا من الممارسات التي تزيد من أزمة الاحترار العالمي. وبينما لم تفِ عديد من الدول والمؤسسات بالتزاماتها على مدار العقود الماضية، باتت هناك حاجة ملحة لهيكل قضائي تحتكم إليه الدول المتضررة ودعاة العدالة المناخية للضغط على الدول الأكثر تسبباً للظاهرة ممن لا تبذل ما يكفي من جهود للتصدي لحالة الطوارئ الناجمة عن تغير المناخ، وهو ما يقودنا إلى السؤال عن سبب غياب محكمة متخصصة بهذا الشأن.

بين عامي 2011 و2012، أطلقت جمهورية بالاو، وهي دولة صغيرة تتشكل من عدد من الجزر الواقعة غرب المحيط الهادئ، حملة لدى محكمة العدل الدولية ضد تغير المناخ، بالنظر إلى التهديد الوجودي الذي تشكله الظاهرة على بالاو وغيرها من الدول الجزرية الصغيرة.

مثل بالاو في هذه الحملة السفير ستيوارت بيك، المحامي المدافع عن الحقوق المدنية، الذي كرس معظم حياته المهنية لمساعدة شعب بالاو على تحقيق الاستقلال ثم الدفاع عن أنفسهم وبيئتهم على المسرح الدولي. كان بيك يؤمن بشدة أنه يمكن محاسبة الأقوياء، وأن سيادة القانون يمكن أن تساعد في ضمان عالم عادل ومستدام للجميع.

على رغم حصولها على دعم كبير من الدول الأخرى لحملتها، يقول أستاذ القانون لدى جامعة “ييل” في الولايات المتحدة دوغلاس قيصر، إن بالاو لم تستطع في النهاية تقديم مشروع القرار بسبب ضغوط كبيرة من واشنطن، إذ كانت واشنطن قلقة من أن “الاعتراف بضرورة تجنب إسهامها بشكل كبير في تغير المناخ” قد يفتح الباب للمسؤولية المالية عن الأضرار المتصلة بهذه القضية.

ضغط القوى الدولية الكبرى يفسر جزئياً غياب وجود محكمة دولية متخصصة بقضايا المناخ، لما سيكون لذلك من تداعيات تتعارض مع مصالح تلك القوى.

تاريخياً تعد الولايات المتحدة أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فإجمالي تراكماتها بين عامي 1913 و2013 يتجاوز 10 أضعاف من الهند، بينما في المستويات الحالية تعتبر الصين أكبر ملوث باعتبارها أكبر مصدر في العالم للانبعاثات الكربونية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري بنحو الربع على مستوى العالم، وفقاً لأحدث تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي عام 2018. وهي أكبر مستهلك للفحم (أكثر مصادر الطاقة تلوثاً) في العالم.

لكنها في المقابل أكبر مستثمر في مصادر الطاقة البديلة، ووفقاً للإحصاءات الدولية، أصدرت الصين ما يقرب من ضعفين ونصف ضعف انبعاثات الولايات المتحدة عام 2019، بنصيب 27 في المئة من حصة الانبعاثات العالمية، تليها الولايات المتحدة بـ11 في المئة، ثم الهند والاتحاد الأوروبي بـ3.4 و3.3 في المئة على التوالي، تليها إندونيسيا وروسيا والبرازيل واليابان بحصص أقل من اثنين في المئة لكل منهم، وأخيراً إيران والسعودية بأقل من واحد في المئة.

تدخلات قضائية حاسمة
بدافع من المدافعين عن العدالة المناخية، حملت دولة فانواتو الواقعة في جزر المحيط الهادئ، شعلة حملة محكمة العدل الدولية بعد بالاو، وأطلقت عام 2021 مبادرتها التاريخية لتخويل محكمة العدل الدولية في الأمور المتعلقة بالمناخ، بعد حملة بادر إليها طلاب جامعيون في جزر فيجي قبل سنتين من ذلك.

شاركت حكومة فانواتو، الشهر الماضي، أعضاء الجمعية العامة بمشروع قرار حظي بدعم أكثر من 100 دولة، وهو ما كان يكفي لتمرير القرار وأن يطلب من محكمة العدل الدولية رسمياً معالجة المسائل الأساسية المتعلقة بقضايا المناخ بموجب القانون الدولي. وهكذا نجحت فانواتو في تمريره، أخيراً، نهاية مارس (آذار)، وتم التصويت على هذا القرار بإجماع أكثر من 130 بلداً، وباعتماده سيتعين على محكمة العدل الدولية إعطاء رأيها حول “واجبات الدول” في حماية المنظومة المناخية “للأجيال الحالية والمقبلة”. وتأمل فانواتو والأطراف الداعمة لها بأن يحض رأي المحكمة المتوقع في غضون سنتين، الحكومات على تسريع تحركها بمبادرة منها أو عبر الملاحقات القضائية التي تستهدفها عبر العالم.

وبموجب شروط القرار، يطلب من محكمة العدل الدولية النظر، ليس فقط في ما يتعين على الدول فعله بموجب القانون الدولي لتجنب مزيد من تغير المناخ الآن وفي المستقبل، ولكن أيضاً تقييم “العواقب القانونية بموجب هذه الالتزامات عندما تتسبب الحكومات، سواء من خلال ما تفعله أو تفشل في القيام به، بضرر كبير للنظام المناخي وأجزاء أخرى من البيئة”.

وفق المعهد الدولي للتنمية المستدامة في وينبغ بكندا، فإنه في حين أن الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية ليست ملزمة بشكل مباشر للدول، فإنها توفر تفسيراً موثوقاً للقانون الدولي، وهو ملالمصدر، زم للدول من خلال الأعراف والمعاهدات. وفي حين أن الجدول الزمني الدقيق للآراء الاستشارية للمحكمة الدولية غير معروف بعد، يشير المتخصصون إلى أنهم يتوقعون نتيجة في غضون عام.

الحديث حول الالتزامات البيئية للدول بموجب القانون الدولي شق طريقه أيضاً إلى المحاكم والهيئات القضائية الأخرى. في العام الماضي قدمت لجنة الدول الجزرية الصغيرة المعنية بتغير المناخ والقانون الدولي طلباً للحصول على رأي استشاري من المحكمة الدولية لقانون البحار في شأن التزامات الدول بحماية البيئة البحرية والحفاظ عليها. وهناك أيضاً عديد من قضايا تغير المناخ المعروضة على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تسعى إلى توضيح التزامات حقوق الإنسان في سياق تغير المناخ.

يقول عضو برنامج القانون والسياسة الاقتصادية لدى المعهد الكندي جوزيف أوسترانسكي، إن رأي محكمة العدل الدولية من المرجح أن يكون له تأثير كبير في تعزيز جهود البلدان لتنفيذ سياسات التنمية المستدامة. فعلى سبيل المثال يمكن أن يوفر رأي محكمة العدل الدولية مزيداً من التفاصيل والوضوح للمعايير المستخدمة للحكم على سياسات التنمية المستدامة للدول، مثل تنفيذ أهداف “اتفاق باريس”، كما يمكن لرأي المحكمة أيضاً أن يلهم مزيداً من الطموح والعمل في ظل العمليات الدولية التي تهدف إلى معالجة الجوانب المختلفة لتحدي المناخ.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

العدالة المناخية.. إلغاء ديون القارة الأفريقية والدول الجزرية

بقلم، مصطفى الشربيني، الخبير الدولي في الاستدامة والمناخ- رئيس كرسي البصمة الكربونية والاستدامة في الألكسو، …